الدبلوماسية القائمة على الإيمان
الدبلوماسية القائمة على الإيمان
Op-Ed / Middle East & North Africa 20+ minutes

الدبلوماسية القائمة على الإيمان

1

في الأيام الأولى لحرب غزة التي أودت بحياة حوالي 2,150 فلسطيني و 72 إسرائيلياً، بدأ عدد من المسؤولين في واشنطن، ورام الله والقدس بالتحدث عن استئناف المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية التي كانت تجري بوساطة أمريكية. مع استمرار القتال، تكثفت تلك الأحاديث، ما يثبت مرة أخرى أن "عملية السلام" تكتسب أقصى درجة من الإلحاح من التهديد الناجم عن العنف الإسرائيلي ـ الفلسطيني وكذلك من رغبة الولايات المتحدة بتهدئة منطقة مضطربة، بما في ذلك عن طريق مساعدة الحلفاء العرب على تبرير مواقفهم الداعمة لأمريكا لجمهورهم. لهذا السبب جرت مباحثات مدريد عام 1991 خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومباشرة بعد الدعم العربي للولايات المتحدة في حرب الخليج عام 1991. ولهذا السبب وُضعت خارطة الطريق لعملية السلام في الشرق الأوسط من قبل الرئيس جورج دبليو بوش عام 2003 خلال الانتفاضة الثانية عندما كانت الولايات المتحدة تجمع تحالفاً لحرب العراق عام 2003. ولهذا السبب أيضاً يمكن أن تسعى الولايات المتحدة قريباً لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، في أعقاب تصاعد المواجهات الإسرائيلية ـ الفلسطينية بحدة ليس في غزة وحسب بل أيضاً في الضفة الغربية والقدس، وبعد منح الدعم الضمني والصريح لما قامت به إسرائيل في غزة من قبل مصر، والأردن، والسعودية والسلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح.

ما من سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن المفاوضات ستنجح إذا ما تم استئنافها؛ حيث إن العقبات التي تسببت بفشل المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الأمريكية جون كيري لم تختفِ، بل إن بعضها أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل. لقد أضعفت استراتيجية حماس في غزة، التي أثارت إعجاب العديد من الفلسطينيين، رغم أنها كانت باهظة التكاليف، البرنامج السياسي للرئيس الفلسطيني محمود عباس المتمثل باللاعنف والمفاوضات. أطلقت حماس آلاف الصواريخ على إسرائيل، فقتلت سبعة مدنيين، في حين أن الغارات الجوية الإسرائيلية والقصف المدفعي قتل مئات الأطفال، ودمّر أجزاء واسعة من غزة، وترك عشرات آلاف الناس دون مأوى. ستتكلف إعادة الإعمار عدة مليارات من الدولارات وستستغرق سنوات.

رغم ذلك، فإن حماس أثبتت أن تشددها واستعدادها لتحمّل هجوم إسرائيلي شرس يمكن أن يحقق في أسابيع أكثر مما حققته مفاوضات عباس في سنوات.

خلال حرب غزة، لم تعلن إسرائيل عن مستوطنة واحدة في الضفة الغربية. رغم أن إسرائيل لم توافق على بعض أهم طلبات حماس ـ على سبيل المثال، فتح الميناء وإطلاق سراح الأسرى الذين تم اعتقالهم مؤخراً ـ فإنها أظهرت حرصاً على التفاوض مع الفلسطينيين واستعداداً لتقديم تنازلات مهمة، بما في ذلك تخفيف القيود المفروضة على بعض المعابر الحدودية، وتوسيع حقوق صيد الأسماك، وتسهيل عملية الإمداد بمواد البناء، والعرض بالشروع بالعمل في قطاع غزة مع الحكومة الجديدة التي تم تشكيلها في حزيران/يونيو.

الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس، الذين كانوا هادئين نسبياً خلال السنوات التي سبقت حرب غزة، فرضوا ضغوطاً جديدة على إسرائيل من خلال الاحتجاجات الليلية والصدامات التي أدت إلى أكبر عدد من الاعتقالات في القدس منذ الانتفاضة الثانية. شكك معلقون إسرائيليون في الافتراضات القديمة حول استدامة الوضع الراهن. أدت الحرب إلى ارتفاع كبير في مستوى الدعم الدولي للفلسطينيين، وإلى ضغوط أمريكية كبيرة بشكل غير اعتيادي على إسرائيل، وإلى انشقاقات داخل الائتلاف اليميني في إسرائيل. بدت قيادة رام الله برئاسة عباس أقل أهمية من أي وقت مضى، في حين ارتفعت شعبية حماس.

مع تداعي الآمال بنصر إسرائيلي سريع على حماس وعندما بدا الغزو البري بشكل متزايد كهزيمة لإسرائيل، أُجبِر حتى عباس ودعاة السلام من حوله على تعديل تصريحاتهم الرسمية لتتلاءم مع الرأي العام الفلسطيني، وأعلنوا، بشكل يصعب تصديقه، دعمهم لحماس وتبنّوا بعض خطابها. أعلن عباس خلال الأسبوع الثالث من القتال، "لا أحد في العالم سيتمتع بالاستقرار والأمان طالما لم يُمنَح هذا ... لجميع أطفال فلسطين". قبل الحرب، كان الثمن الذي طلبه عباس لاستئناف المحادثات أعلى مما يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تقبله. أراد تجميد بناء المستوطنات وإطلاق سراح آخر السجناء المتبقين الذين كانوا قد اعتُقلوا قبل اتفاقيات أوسلو عام 1993، بما في ذلك 14 فلسطينياً من مواطني إسرائيل. اليوم، وبعد تراجعه أمام حماس، لا يستطيع عباس أن يتخلى عن هذه المطالب.

مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصلّبت هي أيضاً. رغم أنه في السنوات الأخيرة بدا وكأنه أقر بأن الارتفاع في عدد السكان الفلسطينيين يحتّم تقسيم أرض فلسطين تحت الانتداب، فإن نتنياهو لم يقبل تماماً بمبدأ السيادة الفلسطينية. خلال الأيام الأولى من حرب غزة، قال لا يمكن أن يكون هناك وضع، بموجب أي اتفاق، نتخلى فيه عن السيطرة الأمنية على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، "وهو ما يعني كل الضفة الغربية. بعد حوالي شهرين من الصراع أثبت خلالهما مقاتلو غزة أنهم أكثر قدرة بكثير مما كانت إسرائيل تتوقع، من المؤكد أن مطالب نتنياهو الأمنية في الضفة الغربية لا تزال أكثر تصلباً. بعد الانتقادات الحادة من جمهوره في يمين الوسط لإخفاقه بتحقيق هدفه المتمثل في إضعاف حماس بشدّة ولأنه قدم تنازلات لها في اتفاق وقف إطلاق النار، فإن نتنياهو سيجد صعوبة في التنازل فيما يتعلق بالأسرى أو بناء المستوطنات لمجرد فرصة الدخول في المفاوضات. العديد من أنصاره يعارضون المفاوضات حتى بدون أية شروط.

إلا أن هذه الأسباب قد لا تكون كافية لإعاقة جهود استئناف المفاوضات. لم يكن وجود فرصة معقولة للنجاح أبداً متطلباً لمحادثات تقودها الولايات المتحدة. عملية المفاوضات لها مكافآتها الخاصة بها، وبشكل مستقل عن الهدف المعلن. بعد المشاكل الكثيرة في العلاقات الخارجية التي نجمت عن الدمار في غزة، فإن إسرائيل ستنظر إلى المحادثات الجديدة بوصفها وسيلة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، وكذلك لإظهار النوايا الجيدة حيال أولئك الفلسطينيين الذين لا يزالون يفضّلون المفاوضات، وإصلاح صورتها في العالم، وإبطاء انتشار مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية في أوروبا، وتعزيز التفاهمات الضمنية بين مصر، والأردن، والسعودية، والسلطة الفلسطينية التي منحتها حرية التصرف في غزة.

تلك الحكومات العربية تريد للمحادثات الجديدة أن تبيّن أن التعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل يحقق فوائد للفلسطينيين ودوراً أكبر لها في عملية السلام. قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في رام الله تريد للمفاوضات المستأنفة أن تثبت أنها ما زالت مهمة وذات صلة بما يجري وأن تظهر أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للحصول على التنازلات من إسرائيل. كما يمكن للمفاوضات أن توفّر تبريراً آخر لاستمرار الاستجابة للمطالب الإسرائيلية والأمريكية بأن لا تتخذ فلسطين إجراءات قانونية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما أصبح ممكناً منذ أصبحت دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. (لقد قال مستشارون مقربون من عباس إن تهديداته في مطلع أيلول/سبتمبر للانضمام إلى منظمات الأمم المتحدة وتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو إلى وضع تاريخ لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي مصمَّمة للتشجيع على الدخول في مفاوضات جديدة). ستأمل الحكومات الأوروبية بأن تقدم المفاوضات جواباً للقواعد الجماهيرية التي تسأل لماذا تدفع لإعادة بناء غزة إذا كان من المرجح أن تُدَمَّر من جديد.

الأكثر أهمية من ذلك هو أن العديد من المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن المحادثات الجديدة ستساعد في منع نشوء صراع إسرائيلي ـ فلسطيني أكبر في القدس والضفة الغربية. نظراً لاقتناعهم بأن غياب المفاوضات يؤدي إلى العنف، فإنهم ينظرون إلى انهيار شهور من جهود جون كيري بوصفه أحد أسباب الحرب في غزة والاضطرابات في الضفة الغربية والقدس التي سبقتها وساعدت من أكثر من ناحية على التعجيل بحدوثها.

إلاّ أن هذا المنطق تشوبه العديد من العيوب. إنه يتجاهل حقيقة أنه في السنوات العديدة التي سبقت محادثات كيري، عندما لم يكن هناك أية مفاوضات، كان هناك هدوء نسبي في الضفة الغربية. كما أن هذا المنطق يفترض أن الفلسطينيين والإسرائيليين دُفعوا إلى العنف بسبب الإحباط وخيبة الأمل من فشل المحادثات التي لم يتوقع أحد تقريباً أن تحقق أية نتائج. هذا إضافة إلى أنه يعتمد على فرضية أن أي عنف يحدث إما بسبب انهيار المفاوضات الأخيرة أو بسبب حقيقة فقدان الأمل لأنه لم يتم إجراء أية مفاوضات مؤخراً.

إلاّ أنه بالنسبة لمعظم الأمريكيين الذين يدعمون قيام "عملية سلام"، وبالنسبة للمسؤولين الأوروبيين، وكذلك للفلسطينيين والإسرائيليين الذين ينزعون نحو السلام، فإن ارتفاع منسوب عدم الاستقرار يُعدُّ دائماً تقريباً دليلاً على ضرورة إطلاق مفاوضات جديدة. يدعمهم في ذلك، بشكل أساسي وزير الخارجية الأمريكي الذي يبدو أنه لا يزال يعتقد أن مواهبه والتزامه ستنجح حيث فشل آخرون.

2

حتى طبقاً لمعايير أسلافه الحديثين، فإن جون كيري، الذي أصبح وزيراً للخارجية في شباط/فبراير 2013، تناول الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني بحماسة غير مسبوقة. لم يكن خياراً واضحاً، بالنظر إلى سجل الجهود الدبلوماسية السابقة، والتجربة المريرة للرئيس باراك أوباما في فترته الأولى، والعديد من العوامل التي كانت قد جعلت الصراع أكثر استعصاءً على الحل، والنطاق الأوسع بكثير والأهمية الأكبر للتحديات الأخرى التي تواجه الولايات المتحدة: المذابح في سورية، التي قارب عدد ضحاياها حينذاك 100,000 والذي كان لا يزال في ارتفاع؛ والعنف الطائفي والتشدد المتنامي ضد الولايات المتحدة والمنتشر في سائر أنحاء الشرق الأوسط؛ والجهود التي تبذل لتغيير الأولويات الأمريكية لمواجهة القوة المتنامية للصين.

رغم كل هذه العوامل، فإن وزير الخارجية الأمريكية الجديد والطموح وجد أن من المُلحّ تسوية الصراع الذي دام لأكثر من قرنين بين اليهود والعرب في منطقة لا تتجاوز مساحتها مساحة ولاية ماساشوستس، مسقط رأسه. بين أدائه لليمين عند استلامه المنصب وانطلاق المحادثات بعد ستة أشهر، تسبب الصراع في مقتل أقل من 10 أشخاص.

كان الاهتمام الكبير الذي أولاه كيري للصراع يوازي الموارد الكبيرة التي تُقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، التي تتلقى من المساعدات الأمريكية أكثر من أي بلد آخر ـ أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً، جميعها تقريباً على شكل مساعدات عسكرية، ما يرقى تقريباً إلى ربع الموازنة العسكرية الإسرائيلية وأكثر من نصف المساعدات العسكرية الأمريكية في سائر أنحاء العالم. الحكومة الفلسطينية أيضاً تضمن ما يقارب نصف مليار دولار سنوياً، وهي بين أكبر المتلقّين للمساعدات الأمريكية وفقاً لحصة الفرد. والحالة هذه، يمكن للمرء أن يتوقع أن يكون للولايات المتحدة نفوذ كبير على هذين الزبونين الصغيرين وشديدي الاعتماد عليها، أكثر من أي بلد آخر. إلاّ أن جهودها في التوسط للتوصل إلى اتفاق سلام بينهما أُحبطت بشكل متكرر، ما يشير ليس فقط إلى سوء إدارة الحكومة الأمريكية لأموال دافعي الضرائب بل إلى انعدام الكفاءة الواضح لأقوى دولة في العالم. رغم ذلك، ليس من الصعب فهم إغراء الدخول في المستنقع الإسرائيلي ـ الفلسطيني بالنسبة لكيري. يعتقد معظم المسؤولين الأمريكيين دون تردد أن نهاية احتمال تحقق حل الدولتين، بصرف النظر عما يعنيه ذلك، سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الأمريكية (على عكس إسرائيل). بالنسبة لكثيرين خارج المنطقة، تبدو تسوية الصراع بسيطة ـ تقسيم عرقي للأرض إلى دولتين أمتين تفصلهما حدود ما قبل عام 1967 ـ وتبدو الولايات المتحدة في وضع يمكّنها من تسويته. في مواجهة اتهامات بانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط ووجود مشاكل تبدو غير قابلة للحل في أمكنة أخرى من العالم، فإن كيري ركّز على ما بدا له ممكن التحقيق.

كما بدا أنه يفكر بأن تسوية الصراع ذات أهمية كبيرة. الوضع الديموغرافي في غزة، والضفة الغربية وإسرائيل ـ حيث أن عدد الأغيار الكلي فيها جميعاً تجاوز عدد اليهود ـ دفع كيري إلى التأكيد في العام الماضي أنه في وقت قريب ستواجه إسرائيل خياراً بين "إما أن تكون دولة أبارثايد وفيها مواطنين من الدرجة الثانية ـ أو ينتهي الأمر بها كدولة تدمّر قدرة إسرائيل على أن تكون دولة يهودية." أعلن كيري، ليس للمرة الأولى ولا الأخيرة، أن "نافذة حل الدولتين تنغلق تدريجياً. أعتقد أن لدينا فترة من الزمن ـ سنة إلى سنة ونصف إلى سنتين ـ أو سينتهي الأمر تماماً."

وهكذا اندفع كيري، واكتسب الثناء والإطراء ليس لوضع استراتيجية جديدة أو تكتيكاً جديداً بل لصدق إيمانه بإمكانية التوسط للتوصل إلى اتفاق. كان مقتنعاً أنه يمكن التوصل إلى اتفاق إذا استطاع أن يُحضِر الأطراف إلى طاولة المفاوضات والتوسط فيها. انطلق في عمله من سوء فهم مفاده أنه بعد عقود من الجهود المخفقة ظل السلام هدفاً بعيد المنال ليس بسبب المواقف غير القابلة للتوافق للأطراف بل بشكل أساسي بسبب غياب الثقة. عادة، فإن جميع الأطراف، مهما كانت شكوكها تبقى مستعدة لإرضاء وزير خارجية مصمم يسعى لتحقيق إرث دائم. لكن كيري وجد أن شهوراً من الدبلوماسية المكوكية ومحاولات الإرضاء الصادقة لم تكن كافية للتغلب على العقبات التي حالت دون إجراء مفاوضات رسمية مباشرة لعدد من السنوات.

منذ بداية الفترة الرئاسية الأولى لأوباما، عقدت ثلاثة اجتماعات فقط بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وجميعها في أيلول/سبتمبر 2010. كما عُقدت محادثات سرية أيضاً، في كانون الثاني/يناير 2012، وعدة اجتماعات "استكشافية" غير مثمرة بين مسؤولين على مستويات أدنى في عمان. استنتج الفلسطينيون أن نتنياهو لم يكن جاداً حول حل الدولتين وبالتالي رفضوا دخول محادثات رسمية معترف بها علنياً ما لم تستجب إسرائيل لشرطين: الأول، الموافقة على تجميد النشاط الاستيطاني، وثانياً، التوصل إلى تفاهم على أن الحدود النهائية للدولتين ستستند إلى حدود إسرائيل قبل عام 1967، وهما شرطان رفضهما جميع رؤساء وزراء إسرائيل قبل نتنياهو. (في عام 2011 ومرة أخرى في صيف عام 2013، وافق نتنياهو سراً على الدخول في محادثات تستند إلى حدود ما قبل عام 1967 إذا ألغى الفلسطينيون مخططاتهم للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية في المؤسسات الدولية واعترفوا بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، وهو الشرط الذي رفضوه باستمرار لأنهم رأوا فيه طُعماً لجعلهم يتخلّون عن حقوق اللاجئين، والموافقة على التمييز ضد المواطنين غير اليهود في إسرائيل، والاعتراف بأولوية الحقوق اليهودية بالأرض التي أُخرج الفلسطينيون منها.) في النهاية، وكما أخبرني مسؤولون أمريكيون، وإسرائيليون، وفلسطينيون على معرفة مباشرة بالمحادثات، وجد كيري صيغة لإطلاق مفاوضات جديدة وهو إعطاء وعود متضاربة لكل من الطرفين.

للإسرائيليين، قال كيري إنه كان قد حصل على موافقة الفلسطينيين على إجراء المحادثات مقابل إطلاق سراح الأسرى، دون تجميد الاستيطان أو الالتزام بحدود ما قبل عام 1967. وللفلسطينيين، ألمح إلى أنه حصل على موافقة على الشرطين. أخبر الفلسطينيين أن إسرائيل ستلتزم خلال المحادثات بإظهار بعض التقييد داخل الكتل الاستيطانية، وطبقاً لعدد من المقربين من عباس، وقف منح عطاءات جديدة للبناء خارجها. نصت رسالة أعطاها كيري للفلسطينيين في بداية المحادثات على أن هدف الولايات المتحدة كان تأسيس دولة فلسطينية تستند حدودها إلى حدود ما قبل عام 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي، كما كان الرئيس أوباما قد قال في خطابه في أيار/مايو 2011. بالنسبة للفلسطينيين، فإن مضمون ذلك في كلتا الحالتين كان أن الوسيط في المحادثات، الولايات المتحدة، حصل على التزامات سرية من نتنياهو بالاستجابة لتنفيذ كلا الشرطين أو ما يقاربهما، لكن لا يمكنه الاعتراف بهذه الالتزامات، لأن من المرجح أن تُرفض من قبل الحكومة الإسرائيلية أو تؤدي إلى حل الحكومة، وأن الولايات المتحدة ستعمل على ضمان احترام كلا الالتزامين.

المفاوضون الفلسطينيون يقولون إن كيري أعطاهم ثلاثة تطمينات مهمة. أولاً، أنه يفهم أنه إذا نجح فإن الائتلاف الذي يشكّل الحكومة الإسرائيلية ينبغي أن يتغير عند نقطة معينة خلال المفاوضات. ثانياً، أن المفاوضات ستبدأ بالتركيز على الحدود والأمن قبل التحوّل إلى قضايا أخرى. ثالثاً، أن الولايات المتحدة ستكون موجودة كطرف ثالث في المفاوضات، وهو التزام أراده الفلسطينيون لأنهم يعتقدون أن التوسط من قِبَل أوثق حليف لإسرائيل يُفضَّل على التفاوض مع محتلهم بمفردهم. وكعامل إغراء إضافي للفلسطينيين، أعلن كيري خطة طموحة لاستثمار 4 مليار دولار في الضفة الغربية.

لم يتم الوفاء بأي من هذه الالتزامات. ليس فقط لم يحدث أي تقييد، بل ظهرت موجة كبيرة من المباني الجديدة في الكتل الاستيطانية، ولم يتم التوقف عن منح عطاءات البناء خارجها، ولم يتم التركيز في البداية على الحدود، ولم يتم منح أي تطمينات بأن النقاشات حول الحدود ستستند إلى حدود ما قبل عام 1967 ولم يكن هناك استثمارات بأربعة مليارات دولار في الضفة الغربية. بناءً على إصرار إسرائيل وتجاوزاً للاعتراضات الفلسطينية، لم يكن هناك أي وجود أمريكي تقريباً في غرفة المفاوضات خلال الأشهر القليلة الأولى من المفاوضات. ولم يُفرَض أي خيار على رئيس الوزراء الإسرائيلي بين القبول بشكل كامل بالقواعد التوجيهية الأمريكية لاستمرار المحادثات وحل حكومته. على العكس؛ ففي جميع مراحل المفاوضات، باستثناء الأسابيع الأخيرة اليائسة منها، تمت صياغة المواقف الأمريكية بشكل خاص لتحاشي إثارة المشاكل للحكومة الائتلافية الإسرائيلية، التي يعارض العديد من أعضائها قيام دولة فلسطينية.

كان هناك وعد آخر قطعه كيري ولم يفِ به، وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير. مقابل وعد إسرائيل بإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين البالغ عددهم 104 والذين كانوا في السجن منذ اتفاقات أوسلو عام 1993، ضمن كيري التزاماً فلسطينياً بوقف أية خطوات نحو العضوية بالمواثيق الدولية، وهيئات المعاهدات، والمنظمات كوسيلة لتعزيز الاعتراف بالدولة الفلسطينية وممارسة الضغط على إسرائيل. بالنسبة لإسرائيل، كان هذا الالتزام الدافع الرئيسي لدخول المفاوضات.

طالب نتنياهو بأن يُطلَق سراح الأسرى على أربع مجموعات، بتباعد شهرين بين كل منها. قدّم الفلسطينيون لكيري قائمة تحتوي أسماء جميع الأسرى المسجونين قبل أوسلو، بما في ذلك 14 مواطناً إسرائيلياً فلسطينياً، وأكد لهم كيري أن إسرائيل كانت قد قبلت. إسرائيل لم تكن قد قبلت.

لم يوافق نتنياهو أبداً على إطلاق سراح المواطنين الفلسطينيين الإسرائيليين الأربعة عشرة، إذ قررت الحكومة الإسرائيلية أن ذلك يتطلب تصويتاً منفصلاً. إلاّ أن المفاوضين الفلسطينيين يقولون إنهم دُفِعُوا إلى الاعتقاد بالعكس. يبدو أن التفكير الرغبوي كان وراء القرار بتضليل الطرفين: لو كان كيري على وشك التوصل إلى اتفاق سلام في الوقت الذي خطط فيه لإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى، كما توقع، لكان من المعقول أن يتوقع الموافقة على حالات العفو. إلاّ أن خطط كيري لم تتحقق. بعد مرور الموعد النهائي لإطلاق سراح الدفعة الأخيرة، وبدا واضحاً أن المواطنين الإسرائيليين الفلسطينيين لن يطلق سراحهم، رغم مرور عدة أيام أعطت فيها الولايات المتحدة تطمينات متكررة بعكس ذلك، فإن الفلسطينيين شعروا بأنهم لم يعودوا ملتزمين بالامتناع عن الانضمام إلى المعاهدات والمواثيق الدولية. أعطوا الولايات المتحدة تحذيرات متكررة بنواياهم ـ وما يكفي من الوقت للحكومة الإسرائيلية لتغيير رأيها ـ ثم انضموا إلى 15 معاهدة واتفاقية كدولة فلسطين. انهارت المفاوضات.

عندما أعلن كيري بداية المفاوضات في تموز/يوليو 2013، قال إن هدفه كان التوصل إلى معاهدة سلام شامل خلال تسعة أشهر، وأنه حافظ على هذا الهدف في وجه شكوك واسعة الانتشار. إلاّ أن منتقديه أخفقوا في فهم أنه لم يكن هناك أي عقوبة على التنبؤ الخاطئ بالنجاح عندما أصبح العالم معتاداً على الفشل. قبل قمة كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، قال الرئيس بِل كلينتون إنه سيتم التوصل إلى اتفاق سلام خلال بضعة أيام. في بداية محادثات أنابوليس في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، عبّر الرئيس جورج دبليو بوش ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس عن ثقتهما بأنه سيتم التوصل إلى اتفاق خلال عام واحد. بعد ثلاثة سنوات، في أيلول/سبتمبر 2010، جدد الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تعهد بوش بالتوصل إلى اتفاق خلال عام مع إطلاقهم لمفاوضات استمرت ثلاثة أسابيع.

في كل حالة، لم يكن التوصل إلى اتفاق سلام السبب الوحيد لانخراط الإسرائيليين والفلسطينيين في المفاوضات. القادة الفلسطينيون يفهمون أن عيشهم والمساعدات الخارجية التي تعتمد عليها الحكومة الفلسطينية ستكون في خطر إذا وصلت عملية السلام بشكل ما إلى نهاية محددة. حتى الانحسارات المؤقتة في عملية السلام لها تبعات مالية بالنسبة للفلسطينيين، الذين عانوا من انخفاض شديد في التمويل الغربي عندما توقفت المفاوضات للجزء الأكبر من عام 2012. على الفلسطينيين كل عام أن يظهروا للمانحين الغربيين "أداءهم" في تحقيق التقدم نحو الدولة، رغم حقيقة أننا تجاوزنا بخمسة عشر عاماً التاريخ الذي كان ينبغي، طبقاً لاتفاقات أوسلو ذات المدة الزمنية المحدودة، للسنوات الخمس من الحكم المؤقت أن تنتهي. في غياب محادثات السلام، يصبح من الواضح بشكل غير مريح لهؤلاء المانحين أن "مشروع بناء الدولة" الذي يموّلونه ليس جزءاً من خارطة طريق أو مسار نحو الاستقلال الفلسطيني بل عبارة عن مسار في حلقة مفرغة.

بالنسبة لإسرائيل، فإن المحادثات السابقة لم تكن أقل فائدة. لقد تلقّوا المزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية؛ وتعهداً مشروطاً من كيري بإطلاق سراح المسؤول العسكري الأمريكي الذي تجسس لصالح إسرائيل؛ واستعمال الولايات المتحدة لحق الفيتو على قرارات الأمم المتحدة التي ترى إسرائيل أنها لغير صالحها؛ ومكانة دولية أكبر على المسرح العالمي. لقد ساهمت المحادثات في تهدئة اليساريين المتذمرين، ونشطاء حقوق الإنسان، والمسؤولين الأوروبيين؛ وتقليص الدعم لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والعقوبات على إسرائيل ومنتجات المستوطنات الإسرائيلية؛ ووقف الخطوات المتخذة نحو الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. يُعتقَد خطأ في معظم الأحيان بأن المفاوضات ساعدت في تخفيف حدة الاحتجاجات الفلسطينية ضد الاحتلال بإعادة إحياء الآمال الفلسطينية بشكل متواضع بتحقيق الاستقلال وبذلك تعزيز ادعاء السلطة الفلسطينية لشعبها بأنها ليست غطاءاً للاحتلال بل أداة لإنهائه. بتعزيز الدعم الدولي لإسرائيل، يمكن للمفاوضات أن تحصّن إسرائيل من الانتقادات للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وغيرها. كما وفّرت المفاوضات أحياناً إمكانية الإفلات من العقاب على بناء المستوطنات في انتهاك للقانون الدولي. حدث هذا خلال مفاوضات كيري، التي ارتفع النشاط الاستيطاني خلالها ـ بمبرر أنه كان ضرورياً لاستمرار حكومة الائتلاف الإسرائيلية بينما كان رئيس الوزراء يحضّر لتقديم عرض شامل للسلام ـ إلى مستويات أعلى بكثير مما كانت عليه في الأشهر التي سبقت المفاوضات أو تلتها. أخيراً، فإن المحادثات خففت حدة الضغوط من أجل تقليص الاحتلال العسكري لأن المفاوضات كانت ستنهي الاحتلال قريباً في كل الأحوال.

إلا أن هذه ليست الأسباب الرئيسية لانخراط الولايات المتحدة في عملية السلام. على عكس السينيكييين اللامبالين من أمثال وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الذي لا يعتقد أن المفاوضات ستنجح لكنه يدعمها على أي حال كشكل من أشكال إدارة الصراع، فإن دوافع المسؤولين الأمريكيين هي في الوقت نفسه أكثر جدية وأكثر إحباطاً. ثمة انقسامات مهمة بين صناع السياسات الأمريكيين الحاليين والسابقين، بمن فيهم قلة من الأصوات المشككة والمعارضة ومجموعة من المحافظين الجدد الذين يعارضون المحادثات بوساطة أمريكية لأنهم يعتقدون بأن العرب لن يوافقوا على التوصل إلى السلام مع إسرائيل، فإن أغلبية كبار المسؤولين الأمريكيين الذين عملوا على الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ـ بمن فيهم، وخصوصاً، الرؤساء ووزراء الخارجية ـ اعتقدوا مع كل جولة جديدة من المفاوضات بأن لديهم فرصة جيدة للتوصل إلى اتفاق سلام شامل.

ليس الافتقار إلى الخبرة هو السبب، حيث إن العديد من المستشارين الكبار المعنيين لعبوا أدوار رئيسية في إدارات متعددة. وتتردد أصداء آرائهم في قاعات مراكز الأبحاث في واشنطن التي شجّع خبراؤها كل حالة إجهاض جديدة. في مذكراته التي نشرت عام 2009، سعى مارتن إنديك، الذي عمل سفيراً في إسرائيل خلال قمة كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000 ومبعوثاً خاصاً لكيري إلى عملية سلام الشرق الأوسط، لتشخيص المرض:

الأمل والتفاؤل مكوّنان محوريان للبراءة التي تميّز انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لماذا نكترث ونحاول تغيير منطقة مضطربة ما لم نكن نعتقد أنه ينبغي لنا أن نفعل ذلك؟ إلاّ أن الجانب المظلم من تلك البراءة يتمثل في سذاجة ناجمة عن جهل وغطرسة تولِّد انعداماً مزمناً للقدرة على الفهم.

3

المسؤولون الأمريكيون الضالعون في عملية السلام ـ إضافة إلى مراكز الأبحاث، والمنظمات غير الحكومية، والمدافعون، والصحفيون، والمحللون، والمسؤولون السابقون الذين يسعون للتأثير بكل هؤلاء ـ يمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات. لقد هيمنت مقارباتهم المختلفة على عملية صنع القرار في الشرق الأوسط لأكثر من عقدين من الزمن وأسهمت في إخفاقات كل إدارة.

أول وأصغر هذه المجموعات، التي سأسميها مجموعة المتشككين، يمثلها المحافظون والمحافظون الجدد الذي يعتقدون أساساً بأن العرب لن يتوصلوا للسلام مع إسرائيل، أو، في نسخة أكثر تفصيلاً، أن العرب لن يقبلوا بالسلام بشروط مقبولة ليمين الوسط الذي يشكّل الأغلبية في إسرائيل. وفي هذه النقطة الأخيرة، هم بالتأكيد على حق.

الشخصيات البارزة والمؤسسات الكبيرة المرتبطة بمعسكر المتشككين تشمل كبار المسؤولين في إدارة جورج دبليو بوش، مثل إيلوت أبرامز، وجون بولتن، ودوغلاس هيغ؛ والمنظمة الصهيونية الأمريكية؛ ومعهد أميريكان إنتربرايز ومؤسسة الدفاع والديمقراطيات؛ وصحيفة ويكلي ستاندرد، وصحيفة كومنتري، ومجلس التحرير في وول ستريت جورنال.

لأن المتشككين يعارضون عملية السلام، فإن نفوذهم على المفاوضات التي تجري بوساطة أمريكية كان محدوداً أكثر من نفوذ المجموعات الأخرى. وينبع الجزء الأكبر من تشككهم حيال عملية السلام من تقييمهم الدقيق لواقع أن العروض الإسرائيلية السابقة للسلام كانت أقل بكثير من أن تلبي المطالب الفلسطينية. كان هذا صحيحاً عندما كان إيهود أولمرت رئيساً للوزراء ـ وقدّم عرضاً اعتُبِر استثنائياً في كرمه من قبل الإسرائيليين وغير كافٍ من قبل الفلسطينيين ـ وكان صحيحاً أكثر منذ حلّ محلّه بنيامين نتنياهو. لا يزال عدد قليل من المتشككين يعارضون تأسيس دولة فلسطينية، لكن بما أن إدارة جورج دبليو بوش أقرّت رسمياً هدف إقامة مثل تلك الدولة، فإن أصواتهم خفتت إلى حد كبير.

ينزع المتشككون إلى اعتبار مفاوضات السلام ليس فقط مضيعة للوقت بل يعتبرونها خطيرة، ويشيرون إلى أدلة على ذلك في الانتفاضة الثانية التي أعقبت فشل قمة كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000. ويلاحظون بأن كل اتفاق مهم وقع بين إسرائيل وجيرانها العرب ـ من اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى معاهدات السلام مع مصر والأردن ـ تم إطلاقها بدون الولايات المتحدة (ينزع المتشككون إلى التقليل من أهمية الجهود الأمريكية اللاحقة لدعم هذه الاتفاقيات). وبسبب نفورهم من مفاوضات "القمة إلى القاعدة" للتوصل إلى اتفاق سلام بين القادة الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنهم ركّزوا بدلاً من ذلك على تغييرات "من القاعدة إلى القمة"، خصوصاً برنامج وزير المالية الفلسطيني السابق غير المنتخب ورئيس الوزراء سلام فياض لبناء مؤسسات تدعم دولة فلسطينية يتم قيامها أخيراً. يبقى هذا البرنامج، طبقاً لجميع المسؤولين في واشنطن، أحد النجاحات القليلة لصنّاع السياسات فيما يتعلق بالصراع في السنوات الأخيرة.

يُظهر التاريخ أنه منذ اتفاقات أوسلو عام 1993 التي أسست الحكم الذاتي الفلسطيني، كان المتشككون الذين شغلوا مناصب مؤثرة خلال إدارة جورج دبليو بوش مسؤولين عن عدد أكبر من التغييرات الإيجابية المؤثرة مما فعله سابقوهم وأسلافهم في إدارتي كلينتون وأوباما. ساعد المتشككون في الحصول على أول موافقة رسمية، سواء من رئيس الوزراء الإسرائيلي أراييل شارون أو الرئيس الأمريكي بوش، ليس على حكم ذاتي فلسطيني بل على دولة. دفعوا عام 2003 من أجل أن تحدث السلطة الفلسطينية منصب رئيس الوزراء، الذي ساعدوا في أن يشغله محمود عباس، القائد الأكثر اعتدالاً في التاريخ الفلسطيني. بعد نهاية الانتفاضة الثانية في مطلع عام 2005، أنشأ المتشككون برنامجاً لاستخدام المستشارين الأمريكيين لتنسيق تحوّل قوات الأمن الفلسطينية بقيادة عباس من مقاتلة إسرائيل إلى التعاون الوثيق معها. وعمل المتشككون على تقليص عدد نقاط التفتيش في الضفة الغربية. وشجعوا المحاولات التي حظيت بالشعبية رغم أنها لم تكن فعالة تماماً التي بذلها فياض للتخفيف من حدة الفساد وإصلاح المؤسسات الفلسطينية. كما دعم المتشككون الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والذي قد يكون أهم تغيير في الصراع منذ عام 1967. يجادل المتشددون في إدارة بوش أن نجاحاتهم تحققت بالتحديد لأنهم عارضوا محادثات السلام غير المثمرة ـ على الأقل إلى أن تغلبت كوندوليزا رايس في مناوراتها عليهم، وجعلت من هذه المحادثات أولوية بالقرب من نهاية فترتها ـ كما كان متشككو إدارة بوش مسؤولون أيضاً عن عدد ليس بالقليل من الإخفاقات. بسبب سوء تقديرهم الفادح لقوة حماس، دفعوا لإجراء انتخابات تشريعية فلسطينية عام 2006، اقتناعاً منهم بأن حماس ـ التي كانت قد قاطعت جميع الانتخابات الوطنية السابقة، بما في ذلك الانتخابات الرئيسية في كانون الثاني/يناير 2005 التي فاز بها عباس ـ ستفقد مصداقيتها وتُهزَم. ثم نسّق المتشككون لسياسة تقودها الولايات المتحدة لعزل الحركة الإسلامية وحرمانها من سلطتها المنتخبة ديمقراطياً. من وجهة النظر المتشككين، فإن النتائج كانت مختلطة. نجحت سياستهم في معاقبة الفلسطينيين على خياراتهم الانتخابية، ومنعوا حماس من الحكم في الضفة الغربية، وقسموا الكيان السياسي الفلسطيني. إلاّ أن السياسة نفسها فشلت من حيث أنها لم تُسقط حماس، كما كانوا يأملون. بدلاً من ذلك فإن حماس أصبحت أقوى، سياسياً وعسكرياً، في حين أن تواطؤ الولايات المتحدة في إحباط نصر حماس قوض شرعية الحكومة الفلسطينية غير المنتخبة التي سعى المتشككون لدعمها.

أنصار مقاربة ثانية أكثر انخراطاً نحو المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية ـ وسأدعوهم المؤنبون ـ يختلفون مع الأهداف المحدودة للمتشككين، ويرفضون شكوكهم ويعتقدون بدلاً من ذلك أن الصراع يمكن تسويته إذا مارست الولايات المتحدة ما يكفي من الضغوط على إسرائيل. يسعى المؤنبون لأن يكونوا وسطاء أكثر توازناً، وإلى انتقاد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي بشكل أكثر قوة، ولتخصيص قدر أكبر من الجهود نحو إجراء مفاوضات الوضع النهائي.

يصف عدد من المؤنبين النافذين أنفسهم أنهم واقعيون ومخضرمون في عملية السلام وينتقدون أنفسهم ومسؤولين أمريكيين آخرين على تصرفهم، على حد تعبير المسؤول السابق في وزارة الخارجية آرون ديفيد ميلر، بوصفهم "محامين لإسرائيل." يضم الأشخاص البارزون والمؤسسات المهمة المرتبطة بمدرسة المؤنبين الرئيس أوباما خلال فترته الأولى، كبير موظفي البيت الأبيض السابق رام إيمانويل، وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، المبعوث السابق إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل، مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي، السفير الأمريكي السابق إلى إسرائيل دانييل كيرتزر، وموظفي وزارة الخارجية في القنصلية الأمريكية في القدس، ومؤسسة "أمريكيون من أجل السلام الآن"، "جي ستريت"، ومجلس تحرير نيويورك تايمز.

يعتقد المؤنبون أن معظم الإسرائيليين لا يجدون حافزاً على المدى القصير لتغيير وضع راهن من الاحتلال العسكري الطويل، وزيادة النشاط الاستيطاني، وتعميق التشابك الإسرائيلي في الضفة الغربية. لقد كانت أكبر الاحتجاجات الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة ضد ارتفاع تكاليف المعيشة وإجبار اليهود المتزمتين على أداء الخدمة العسكرية، وليس على الاحتلال الذي أصبح جزءاً طبيعياً، ومقبولاً، ويمكن تجاهله بسهولة من حياة معظم الإسرائيليين. يجادل المؤنبون أنه في غياب الضغوط الأمريكية، فإن الإسرائيليين قد يعتبرون أن هذا الوضع الراهن ليس مثالياً لكنهم يفضلونه على البدائل الرئيسية الأخرى. قلة من الإسرائيليين ترغب بانسحاب أحادي، حتى من أراضٍ أصغر مساحة بكثير مما يطالب به الفلسطينيون، خصوصاً لأن قيامهم بذلك لن ينهي الصراع ولا المطالب ضد إسرائيل المتعلقة بما تبقى من احتلالها. وعدد أقل منهم يريد منح الجنسية لجميع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سيطرتهم، رغم أن أعداداً متزايدة من أفراد اليمين الإسرائيلي تدافع عن ذلك. كما أن لا أحد تقريباً يسعى إلى التوصل إلى اتفاق بشروط يقول الفلسطينيون أن بوسعهم قبولها، بشكل يمنح السيادة لدولة قد تعيد انتخاب حماس يوماً ما.

يختلف المؤنبون عن المجموعات الأخرى بشكل أساسي في مدى إلحاح توصل إسرائيل إلى اتفاق. نظراً إلى خشيتهم أن العناصر الأكثر راديكالية في إسرائيل ستدفع البلاد إلى الدمار، فإن المؤنبين يهدفون للتصرف بـ "حبٍ قاسٍ" نحو إسرائيل من أجل مساعدتها على تحقيق ما يعتقدون أنها لا تدرك أنه في مصلحتها.

المؤنبون مثل الرئيس أوباما يدّعون غالباً أن ما يقارب من نصف قرن من الاحتلال "غير قابل للاستدامة،" وأن الوقت ينفد، وأن إسرائيل تواجه فناءاً ديموغرافياً، وأن الظروف الراهنة تشكل آخر فرصة لتسوية الصراع ـ وهي ادعاءات تتكرر كثيراً بشكل يدفع الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء إلى تجاهلها. نظراً لاعتبارهم التوسط الأمريكي الفعّال شرطاً ضرورياً للسلام، فإن المؤنبين يرفضون فكرة المتشككين القائلة بأنه كما في معاهدات السلام الإسرائيلية السابقة، فإن على الاتفاق أن ينتظر مبادرة الأطراف أنفسهم. بعض المؤنبين يشكّون في فرصة تحقيق السلام في ظل نتنياهو أو زعماء يمينيين آخرين (في الواقع، ومنذ انهيار محادثات كيري، تصرف مؤنبو إدارة أوباما كالمتشككين، ودعوا إلى "توقف" في المفاوضات على أمل أن يتوسل الطرفان في النهاية للولايات المتحدة كي تعود إلى الانخراط)؛ إلاّ أن هذا لا يترجَم إلى تشكك حول عملية السلام بشكل عام.

يجادل المؤنبون بأن الصراع لم يبقَ دون تسوية لأن أقصى ما سيتنازل عنه الإسرائيليون أقل من الحد الأدنى الذي سيقبل به الفلسطينيون، كما يدعي المتشككون. بل يقولون بأنه ظل دون تسوية لأن الولايات المتحدة لم تتمتع بما يكفي من الجرأة في مسعاها لجسر الاختلافات. ينزع المؤنبون إلى التركيز بشكل أكبر على المستوطنات والأراضي مما يركزون على القضايا الأكثر إشكالية مثل السيادة على الحرم الشريف في القدس ـ المعروف لليهود بجبل الهيكل ـ وتسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. يرددون باستمرار أن الخطوط الرئيسية لمعاهدة السلام النهائية معروفة جيداً، وينزعون إلى تجاهل أن الفشل الذي تحقق حتى الآن يمكن تفسيره بعدم كفاية الترتيبات التي اقترحوها وتم رفضها.

لم يحدث أي شيء لتقويض مصداقية المؤنبين أكثر من استلامهم للسلطة. ما من إدارة أمريكية حفلت بعدد كبير من المؤنبين كإدارة باراك أوباما، ولم يكن هناك رئيس أمريكي أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين منه. لكن حتى الآن، فإن أوباما حقق لهم أقل بكثير مما حققه لهم جورج دبليو بوش.

يعود هذا جزئياً إلى الظروف؛ فمتشككي إدارة بوش ومؤنبي إدارة أوباما بدأوا العمل في مناصبهم في نفس الوقت تقريباً الذي انتخب فيه رئيس الوزراء الليكودي الذي لم يكن قد قبل بعد بفكرة الدولة الفلسطينية. دخل أراييل شارون عام 2001 وبنيامين نتنياهو عام 2009 فترتهما بعد أشهر من انهيار ما كان في كل حالة أوسع مفاوضات إسرائيلية فلسطينية حتى الآن. رفض كلاهما الاستمرار في المفاوضات حيث تركها سلفاهما ـ إيهود باراك عام 200-2001 وإيهود أولمرت عام 2007-2008، رغم مناشدات الفلسطينيين لهم لفعل ذلك.

كان باراك وأولمرت قد قدّما عروضاً كانت في الوقت نفسه غير مرضية للفلسطينيين والرأي العام المعتدل في إسرائيل. كان كل رئيس وزراء قد أطلق هذه المقترحات في وقت كان يخسر فيه السلطة وكان التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي وسيلته الوحيدة للاحتفاظ بالمنصب المنتخب. كانت كلتا الإدارتين الأمريكيتين متأكدتان من أن رئيس الوزراء الليكودي الجديد لا يستطيع تقديم عرض موازٍ، ناهيك عن تجاوز العروض التي قدمت قبل عدة أشهر. لكن في حين أن متشككي إدارة بوش استنتجوا أن تجدد المفاوضات كان لا معنى له، فإن مؤنبي إدارة أوباما، ولاعتقادهم بأن المحادثات يمكن أن تنجح إذا استعملت الولايات المتحدة خليطاً من الإغواء والضغط، سعوا لإطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين ونتنياهو. فعلوا ذلك رغم الأصوات التي تصم الآذان للمحللين والمسؤولين السابقين الذين كانوا يقولون إنه لا يمكن جعل نتنياهو يقدم حتى التنازلات التي قدمها أسلافه والتي كان الفلسطينيون مؤخراً قد وجدوها غير كافية. في هذه الأثناء كان الفلسطينيون يخسرون بدخول محادثات مع رئيسي الوزراء الليكوديين. الأرجح أنهم كانوا يعتقدون أن القادة الليكوديين سيجعلون المواقف الإسرائيلية أكثر تصلباً، مما سيؤدي إلى انهيار المحادثات وإلى نقطة بداية محتملة أقل جاذبية للمحادثات المستقبلية. على مدى السنوات، تحولت المواقف التفاوضية الإسرائيلية بشكل اقتربت فيه أكثر فأكثر من المطالب الفلسطينية بالسيادة الكاملة على القدس الشرقية والتخلي عن أراضٍ تعادل 22% من فلسطين تحت الانتداب والواقعة خارج حدود إسرائيل قبل عام 1967. لا يمكن توقع دخول أي قائد فلسطيني محادثات تنطوي على فرصة كبيرة في عكس هذا الاتجاه. بدا أن متشككي إدارة بوش فهموا هذه النقطة لكن من الواضح أن مؤنبي إدارة أوباما لم يفهموا.

وهكذا، في الأيام الأولى من رئاسة أوباما، دفع المؤنبون، بقيادة كبير موظفي البيت الأبيض رام إيمانويل، إلى تجميد المستوطنات، معتقداً، عن خطأ، أن هذا سيكسب الاحترام، وسيفضي إلى خطوات لاحقة نحو التطبيع، من قبل الدول العربية. لم تتأثر الدول العربية بهذا ولم تقدم لأوباما أكثر من اللامبالاة. بعد أكثر من 10 أشهر من الإخفاق المؤلم وبكلفة محلية كبيرة، نجح المؤنبون في الحصول من إسرائيل ـ مقابل التزام عباس الذي ألحق به ضرراً داخلياً بتأجيل التصويت على مصادقة الأمم المتحدة على تقرير غولدستون حول الصراع في غزة في الفترة 2008-2009 ـ وليس تجميد بل ما سمي بتعليق النشاط الاستيطاني الذي كان مليئاً بالثغرات. وقد شمل هذا عدداً كبيراً من الاستثناءات للأبنية التي كان قد بُدئ العمل بها؛ وللمنشآت التعليمية، والدينية والثقافية والرياضية؛ والبنية التحتية العامة؛ والبناء في القدس الشرقية، حيث التداعيات الأكبر لبناء المستوطنات. تعليق النشاط الاستيطاني لعام 2010 ـ الذي تم تمديده لتسعين يوماً مقابل رزمة ضمانات أمنية بقيمة ثلاثة مليارات دولار وتعثر باستعمال الفيتو على التحركات الفلسطينية نحو الدولة في الأمم المتحدة ـ سبقه مباشرة وتبعه مباشرة كم كبير من البناء بحيث جعله غير ذي معنى. في الضفة الغربية، انخفض عدد عمليات الشروع في البناء بأقل من 7% عن العام السابق، بينما في القدس الشرقية بلغ عدد الوحدات السكنية التي تمت الموافقة عليها أكثر من الضعف.

على النقيض من ذلك فإن بوش عرض تجميداً كاملاً لبناء المستوطنات خلال الأشهر الأولى لوجود شارون في منصبه عام 2001، كما يكتب إنديك، الذي كان سفيراً في إسرائيل، في مذكراته. كان الاختلاف الرئيسي هو أن شارون قدم ذلك مقابل وقف العنف الفلسطيني الذي كان مستعراً حينذاك، في حين أن أوباما بدأ فترته الرئاسية بعد أن كانت الانتفاضة قد انتهت بوقت طويل.

تكوّنت الضغوط الأمريكية على إسرائيل خلال أول عام لأوباما في منصبه بشكل أساسي من توبيخات كانت أكبر كلفة لأجندة أوباما السياسية المحلية مما كانت مكلفة لنتنياهو. نظراً لإحباطه من إخفاقات المؤنبين، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن أوباما سألهم، "أرى أنكم تريدون تعليقاً للنشاط الاستيطاني، لكن كيف يمكن لذلك أن يأخذنا إلى حيث نريد؟ أخبروني عن علاقة ما نفعله بهدفنا." لم يمضي وقت طويل قبل أن يعيّن شخصية رفيعة من معسكر أيديولوجي منافس سأسمي أعضائه المحتضنين.

يجمع ممثلو التيار الثالث والأكثر نفوذاً، المحتضنون، الحب غير المشروط لإسرائيل الذي يظهره المتشككون والإيمان الراسخ بعملية السلام الذي يظهره المؤنبون. المؤسسات البارزة المرتبطة بمدرسة المحتضنين تشمل رابطة مكافحة التشهير، والأطراف الأكثر اعتدالاً (وغير المتشككة) في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك)، والسفارة الإسرائيلية في تل أبيب، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ومجلس تحرير واشنطن بوست. كالمتشككين، فإنهم يعتقدون أن تركيز الولايات المتحدة على المستوطنات أمر خاطئ. وكالمؤنبين فإنهم يعتقدون بقوة أنه يمكن التوصل إلى اتفاق وأن الولايات المتحدة ضرورية لتحقيق ذلك. لكن على عكس المؤنبين، فإنهم يجادلون بأنه يمكن التوصل لتحقيق السلام باحتضان إسرائيل بشكل أكبر، وتطمينها وتبديد مخاوفها. ويجادل المحتضنون بأن إسرائيل هي الطرف الأقوى، وبالتالي فإن لديها الكثير مما تعطيه والكثير مما تخسره؛ وكي تتمتع إسرائيل بالثقة اللازمة لاتخاذ خطوات كريمة، فإنها بحاجة لدعم أمريكي كامل.

أبرز المحتضنين هو دينيس روس، المخضرم في إدارتي جورج هربرت بوش وبل كلينتون والذي طُلب منه قيادة سياسة أوباما للشرق الأوسط عندما وصلت استراتيجية المؤنبين إلى طريق مسدود. عارض روس وغيره من المحتضنين اندفاعة المؤنبين نحو تجميد المستوطنات. وتصارع مع جورج ميتشل حول السيطرة على السياسة حيال الشرق الأوسط إلى أن انتصر؛ وعندما وقف أوباما مع روس ورفض الدعوة إلى تقسيم القدس في خطاب هام بشأن السياسات ألقاه في أيار/مايو 2011، استقال ميتشل.

قبل أن يصبح وزيراً للخارجية ويطلق محادثات السلام، كان يُعتقد أن جون كيري، بملاحظاته حول الفرصة الأخيرة لحل الدولتين والتبعات الخطيرة لعدم تحقيق السلام، بين المؤنبين في واشنطن. إلاّ أنه سرعان ما اختار فريقاً من المحتضنين وطبق استراتيجيتهم وحصل على إشادة متحمسة منهم. روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي أسسه دينيس روس ومارتن إنديك (المحتضن السابق الذي تحوّل نحو معسكر المؤنبين)، امتدح "صلابة وحكمة" موقف كيري المناهض للمؤنبين، والذي دعا إلى محادثات بشروط كانت إسرائيل قد سعت منذ أمد طويل لتحقيقها. وقال ساتلوف، "على عكس أوباما 2009، فإن الاستراتيجية الأولية لكيري 2014 كانت تتمثل في 'احتضان' رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وسؤاله بشكل أساسي، 'ما الذي تحتاجه؟'".

يتمتع المحتضنون بالشعبية لدى الرؤساء لأنهم يخبرونهم تماماً بما يريدون أن يسمعوه: أن باستطاعتك تحقيق أهدافك ببناء تحالف وثيق للإدارة مع إسرائيل، وتحسين العلاقات معها في سياق ذلك، وإرضاء الفلسطينيين لأن احتضانك لإسرائيل سيؤدي إلى السلام الذي يرغبونه، وتحقيق كل ذلك بينما تكسب ثناء أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة، وبذلك لا تدفع أي ثمن سياسي داخلي. حتى الآن لم يتحقق هذا الحلم، إلاّ أن الكلمات كانت من الحلاوة بحيث لا يمكن مقاومتها.

أوباما، الذي وقع تحت تأثيرهم في وقت مبكر من فترته الأولى، تبنّى استراتيجية حيال عملية السلام لا تختلف عن استراتيجية ذات الظفائر الذهبية حيال الثريد في الحكاية الفولكلورية المعروفة. استلم منصبه وهو يعتقد بأن متشككي بوش كانوا أكثر حرارة مما ينبغي حيال إسرائيل، حيث أخبر مجموعة من الزعماء اليهود عام 2009، "خلال تلك السنوات الثمان [من إدارة بوش]، لم يكن هناك مسافة بيننا وبين إسرائيل، ما الذي حققناه من ذلك؟" لكن أوباما سرعان ما استنتج أن مؤنبيه كانوا أبرد مما ينبغي. وهكذا، سلّم المسؤولية للمحتضنين، الذين اعتقد أنهم يناسبونه تماماً. لم يكن تعيين كيري وزيراً للخارجية تحوّلاً عن استراتيجية المحتضنين بل إعادة تأكيد عليها. عندما طرحت إسرائيل خططاً لتوسيع كبير للمستوطنات مع كل عملية إطلاق سراح للأسرى، لم يفعل كيري أكثر من وصف الإعلان عن أبنية جديدة بأنها "لا تساعد،" وفي نفس الوقت يُغضب الفلسطينيين بالإعلان أن الارتفاع الحاد في مستويات البناء "متوقع" ويحثّهم على عدم التخلي عن المحادثات. وجعل أولويته القصوى تحقيق مطالب نتنياهو بوجود أمني إسرائيلي في وادي الأردن في الضفة الغربية والاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية، وهو موقف كانت الولايات المتحدة قد أخفقت في جعل حتى الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط ـ الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة وروسيا ـ تصادق عليه في صيف عام 2011. حتى الأسابيع الأخيرة من المحادثات، سعى لتجنب وضع إسرائيل أمام أي خيار من شأنه أن يؤدي إلى تفكك ائتلاف حكومة نتنياهو. فيما يتعلق بالقضايا الصعبة مثل تقسيم السيادة في القدس، استعمل خطاباً مخاتلاً ـ مثل الإشارة إلى "التطلعات" الفلسطينية بإقامة عاصمة هناك ـ ويوحي للفلسطينيين بأنهم سيتمتعون بالسيادة في المدينة في حين يوحي لليمين الإسرائيلي بأنه لن يحدث أي تقسيم.

مع تتابع خيبات الأمل الواحدة تلو الأخرى، أدرك الفلسطينيون أن المفاوضات تنطوي على مخاطر أكبر بكثير مما كانوا يتوقعون. مع فشل المحادثات وتخفيض مستوى الأهداف الأمريكية بشكل مستمر ـ من معاهدة سلام شاملة إلى اتفاقية إطار بين الأطراف إلى مجرد تمديد المحادثات دون إطار ـ باتوا يخشون أن كيري سيقدم الخطوط العريضة لاتفاق، وهي رؤية بدت على نحو متزايد أنها ستمثل العودة عدة خطوات إلى الوراء عما كانوا يعتقدون أنها التزامات مضمونة.

تذكّر الفلسطينيون أن خارطة الطريق لسلام الشرق الأوسط التي وضعها بوش عام 2003، والتي صاغتها الولايات المتحدة بالتشاور مع آخرين وصادقت عليها الرباعية ومجلس الأمن الدولي، وعدت بأن يتم تجميد كل النشاط الاستيطاني وأن المواقع الاستيطانية المشيّدة حديثاً سيتم تفكيكها فوراً. كما نصت خارطة الطريق على أن التسوية النهائية للصراع ستستند على مبادرة السلام العربية لعام 2002 (رغم أنها لم تكن مطابقة لها). كان هذا يقترح وجود عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية؛ وحل دائم لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين طبقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1948، الذي صوتت لصالحه الولايات المتحدة، والذي دعا إسرائيل للسماح للاجئين الساعين إلى السلام للعودة وتقديم التعويض المالي لأولئك غير الراغبين بالعودة؛ وبالانسحاب الكامل إلى حدود إسرائيل قبل عام 1967، دون أي ذكر القبول بالكتل الاستيطانية أو تبادل الأراضي.

لا يصر المفاوضون الفلسطينيون على ألاّ تنطوي اتفاقية شاملة على أية تعديلات لمبادرة السلام العربية أو أسس أخرى محتملة لمفاوضات مستقبلية. إلاّ أنه ليس لديهم من الحوافز ما يدفعهم للقبول بمفاوضات تستند إلى شروط أسوأ مما كان قد قُدِّم لهم في الماضي. حتى معايير كلينتون التي وضعت في كانون الأول/ديسمبر 2000، والتي عبّرت منظمة التحرير الفلسطينية عن تحفظات أساسية بشأنها، قدمت للفلسطينيين السيادة على الحرم الشريف في القدس وأيضاً اعترافاً إسرائيلياً من حيث المبدأ، رغم أن التنفيذ ترك للتقديرات السيادية لإسرائيل، "بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى فلسطين التاريخية [أي فلسطين تحت الانتداب]."

أخفق كيري في فهم مدى خطأ فكرته عن الحصول على القبول الفلسطيني بمعايير أمريكية مفصّلة. لم يكن هناك سابقة لزعيم فلسطيني يقدم تنازلات إشكالية للغاية حول قضايا الوضع النهائي لمجرد فرصة الدخول في مفاوضات أو تمديدها، ناهيك عن التفاوض مع حكومة إسرائيلية للفلسطينيين أسباب قوية للتشكك بنواياها. إن التنازل، في غياب معاهدة سلام شاملة، وتقريباً عدم منح الخيار لأي لاجئين بالعودة إلى إسرائيل هو فعل من قبيل الانتحار السياسي الذي سيكون من الحكمة لأي زعيم فلسطيني أن يتجنبه. رغم ذلك فإن الولايات المتحدة طلبت من عباس فعل ذلك بالتحديد، وعبّرت عن خيبة أمل كبيرة عندما رفض التقاط السيف الذي سينتحر به.

يدعو المؤنبون الولايات المتحدة بشكل متكرر لنشر رؤيتها حول نهاية الصراع. يعتقدون أن طرح معايير أمريكية لاتفاق شامل سيكون إما أساساً لاستئناف المفاوضات أو سيجبر حكومة الائتلاف في إسرائيل على التفكك (بحيث يمكن استبدالها، كما يأملون، بحكومة يمكن أن تقبل بالمعايير الأمريكية). إلاّ أنه لم يقم أي مؤنب حتى الآن بصياغة، كمجرد أساس للمحادثات، مجموعة من المعايير المحددة حول قضايا الوضع النهائي يمكن أن تكون مقبولة بشكل كامل من قبل عباس وحتى اليسار الإسرائيلي، ناهيك عن اليمين والوسط الإسرائيليين. ما لم يقبل عباس بمثل هذه المعايير دون مجموعة من التحفظات تلغيها فعلياً، فإن الحكومة الإسرائيلية لن تكون مضطرة لفعل ذلك.

في اجتماع في البيت الأبيض في آذار/مارس 2014، قرأ أوباما لعباس مسودة إطار أمريكية لاستئناف المفاوضات، وأخبره أن بوسعه إضافة تحفظاته عليها، كما بوسع الطرف الإسرائيلي فعل ذلك. كان مقترح آذار/مارس 2014 أكثر ميلاً لصالح الفلسطينيين من معايير كلينتون التي وضعت عام 2000 فيما يتعلق بموضوع واحد هو الأرض: في حين أن مقترح كلينتون استبعد احتمال قيام دولة فلسطينية تساوي من حيث المساحة الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية مجتمعة، فإن أوباما لم يفعل ذلك، قائلاً إن الحدود ستكون حدود إسرائيل قبل عام 1967 مع تبادل للأراضي متفق عليه. إلاّ أن بقية المقترح كانت أقل ميلاً لصالح الفلسطينيين. على عكس معايير كلينتون فإن مقترح أوباما الذي قدّمه في آذار/مارس 2014 لم ينص على موعد نهائي لانسحاب قوات الأمن الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية. ولم يذكر حق العودة، بل نص بشكل محدد على أن عدداً صغيراً من الحالات الإنسانية سيسمح لها بالعودة، وفقا لتقدير إسرائيل. وعلى شاكلة معايير كلينتون، فإنه قدم للفلسطينيين عاصمة في جزء من القدس الشرقية، لكن على عكس خطة كلينتون، فإنه لم ينص على أن يتمتع الفلسطينيون بالسيادة على ثالث أقدس موقع لدى المسلمين، وهو الحرم الشريف، الذي يسميه اليهود جبل الهيكل.

عبّرت إدارة أوباما عن إحباط كبير حيال رفض عباس قبول الإطار. في آب/أغسطس، قال أوباما إن عباس كان "أضعف" من أن يتمكن من صنع السلام، وهو تقييم يمكن الدفاع عنه لكنه غير كامل لأسباب تداعي محادثات كيري. لم يذكر أوباما أن عدم قدرة عباس على قبول الإطار الذي وضعته الولايات المتحدة في آذار/مارس 2014 فاقمتها حقيقة أن عباس لا يمثل شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك العديد من أنصار حماس، التي أقصيت لعقود من منظمة التحرير الفلسطينية، الهيئة التي يفترض أن تمثل جميع الفلسطينيين. يتذمر المسؤولون الأمريكيون في مجالسهم الخاصة من الافتقار إلى الرؤية أو الشجاعة لدى القادة الفلسطينيين. لكن بدلاً من السعي لتعزيز شرعيتهم وتقويتهم، فإن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لإقصاء الجميع باستثناء الأصوات الأكثر حمائمية المحيطة بعباس عن مواقع صنع القرار الفلسطيني ـ وليس فقط الإسلاميين بل شرائح واسعة ومهمَلة، بما في ذلك اللاجئين وفلسطيني الشتات. ومن المؤكد أن يضمن هذا أن الحمائم سيكونون أضعف من أن يتمكنوا من الحصول على إجماع، وأكثر عزلة من أن يتمكنوا من تسويق مثل ذلك الإجماع بنجاح. وبالتالي لم يكن من المفاجئ أنه بالنظر إلى الخيار بين تقديم تنازلات خطرة سياسياً ورفض إطار الولايات المتحدة، فإن منظمة التحرير الفلسطينية تحركت في نيسان/أبريل 2014 لإنهاء المحادثات، والانضمام إلى المعاهدات والمواثيق الدولية بصفتها دولة فلسطين، والتوقيع على اتفاقية مع حماس لتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط مقبولة لمنظمة التحرير الفلسطينية وغير موالية لحماس.

في النهاية، ساعد كيري على التوسط للتوصل إلى اتفاق، لكن ليس الاتفاق الذي كان يهدف إليه، ولذلك فإن حماس وفتح مدينتان له بالشكر. رغم ذلك، ورغم ما يبدو من وضوح القرار الفلسطيني بالتخلي عن المفاوضات، فإن مبرره يبقى غامضاً بالنسبة لكيري وفريقه. خلال خطاب في أعقاب انهيار المفاوضات، قال إنديك، "لا أستطيع القول إني أفهم تماماً جميع العوامل ذات الصلة" التي دفعت عباس إلى "إقفال الباب." في مناسبات أخرى حمّل هو وكيري مسؤولية الفشل ليس للاختلافات الكبيرة بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني بل للعقبات الإجرائية والعبارة التقليدية "غياب الثقة."

اليوم هناك مرة أخرى نقاش حول محاولة استئناف المفاوضات من أجل ملء "الفراغ السياسي" الذي يعتقد عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين أنه كان سبباً مهماً للحرب في غزة. إذا لم تنجح محاولات استئناف المحادثات، فإن إدارة أوباما قد تدرس مجدداً احتمال الطرح العلني للرؤية الأمريكية لنهاية الصراع. في اللحظة الراهنة يمكن للمرء أن يعتقد أن صُنّاع السياسات الأمريكيين قد يتمتعون بقدر أكبر من التواضع حيال قدرتهم على التنبؤ بالشروط التي سيحتويها اتفاق الوضع النهائي. لكن حتى عندما بدا انهيار المحادثات في الأفق في آذار/مارس، ظل كيري بعبارته ("في الواقع إن شكل الوضع النهائي ليس أحجية") وأوباما بقوله ("الجميع يفهم الخطوط العريضة للشكل الذي سيكون عليه اتفاق السلام") مقتنعين بأنهما يعرفان الشروط التي ينتهي بموجبها الصراع: شيء مشابه تقريباً للمقترحات التي وجدها الفلسطينيون غير كافية ـ معايير كلينتون، مقترح أولمرت لعباس عام 2008، أو الإطار الذي طرحته الولايات المتحدة في آذار/مارس 2014. وهكذا يبدو من المرجح أن كيري وأوباما سيكرران أخطاء الماضي مرة أخرى.

4

رغم الاختلافات التكتيكية بين المتشككين، والمؤنبين، والمحتضنين، هناك الكثير مما يوحد المقاربات الثلاث مما يمكن أن يمايزها عن بعضها بعضاً. إذا كان لها أن ترسم الخطوط العريضة لمعاهدة سلام، فإنها قد تتصارع حول حجم الأراضي التي سيتم تبادلها، وعدد المستوطنين الذين ستخليهم إسرائيل، وموقع الحد الذي سيقسم القدس، والفترة التي ستستمر فيها قوات الأمن الإسرائيلية بالتواجد في دولة فلسطينية، وما إذا كانت قضية اللاجئين "ستستند" إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 أو ستمثل تحقيقه. لكن بالنسبة للمراقب غير الخبير سيكون من الصعب معرفة أهمية مثل تلك الاختلافات.

فيما يتعلق بالقضايا الأكثر أهمية، فإن آراءهم تتقاطع. يعتبر أعضاء المجموعات الثلاث أنفسهم موالين لإسرائيل ومهتمين بالمحافظة عليها كدولة يهودية. وجميعهم يفضلون حل الدولتين، وقيام إسرائيل بضم كتل استيطانية كبيرة في الضفة الغربية، وإقامة عاصمة فلسطينية في جزء من القدس الشرقية. عند التحدث عن تقسيم القدس، فإن الجميع يعني تقسيم القدس الشرقية المحتلة وحسب، وإجبار الفلسطينيين الراغبين بالذهاب من رام الله إلى المسجد الأقصى على الانتقال في أنفاق تمر تحت مستوطنات القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل. الجميع يرغب بحرمان اللاجئين الفلسطينيين من أي شيء أكثر من عودة رمزية لإسرائيل، ولا يدعون إلى عودة حد أقصى يتمثل في 120,000-125,000، كما تمت مناقشته في مفاوضات طابا عام 2004. الجميع يقللون من شأن الأهمية الأخلاقية بالنسبة للفلسطينيين في أن تعترف إسرائيل بمسؤولية جزئية على الأقل عن مشكلة اللاجئين. الجميع يتخيل مبالغ من التعويضات المالية للاجئين أقل مما يتوقعه اللاجئون. (أظهر مسح أجري عام 2003 أنه بين اللاجئين المستعدين لاختيار التعويض بدلاً من العودة إلى إسرائيل، اعتقد 65% منهم بأن المبلغ المنصف هو 100,000 ـ 500,000 دولار للأسرة. قبل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، قدّر مسؤولون أمريكيون أن مبلغاً إجمالياً قدره 20 مليار دولار قد يتوفر للاجئين الفلسطينيين واللاجئين اليهود من البلدان العربية، ما يعني أن الفلسطينيين يمكن أن يتوقعوا تلقي ما لا يزيد عن 1000-3000 دولار لكل لاجئ) وجميعهم يهملون إلى أي حد ستكون هذه المقترحات غير مقبولة للاجئين، الذين سيكون لا غنى عن دعمهم لاتفاق دائم، حيث إنهم يشكلون أغلبية الفلسطينيين في العالم وحوالي 45% من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.

المجموعات الثلاث كلها تدعم طلب إسرائيل بوضع قيود صارمة على سيادة دولة فلسطينية مستقبلية، مع قيود على تسليح الفلسطينيين، والسيطرة على الحدود، والمجال الجوي، والقدرة على تشكيل تحالفات، إضافة إلى وجود قوات أمن دولية في الدولة الفلسطينية، ومحطات إنذار مبكر إسرائيلية، وممرات لانتشار القوات الإسرائيلية في حالة الطوارئ، ووجود جنود إسرائيليين بشكل مستمر لفترة طويلة من الزمن. بعض هذه القيود، وليس كلها، مقبول لقادة منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها لا تحظى بالشعبية نهائياً لدى الجمهور الفلسطيني.

الأكثر أهمية من كل ذلك، أن المجموعات الثلاث كلها تقلل من شأن عدم فعالية الأفعال والسياسات الأمريكية وآثارها الضارة، سواء كانت الخطوات التدريجية التي يفضلها المتشككون أو محادثات الوضع النهائي التي روج لها المحتضنون والمؤنبون. كل المجموعات تبرر مواقفها على أساس أنها تدفع الطرفين نحو سلام بين دولتين. إلاّ أن الأثر الذي أحدثته المجموعات الثلاث، عملياً وإن لم يكن بشكل متعمد، هو خلق آمال زائفة.

لعقدين من الزمن، بررت فكرة المحتضنين والمؤنبين بأن السلام سيتحقق في المستقبل القريب عدم اتخاذ أكثر من خطوات محدودة وغير كافية لتخفيف المشقات التي يفرضها الاحتلال اليوم. لم تطالب لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة بأن يكون انسحاب إسرائيل من قطاع غزة أو من جنوب لبنان مصحوباً بمعاهدة سلام، وهو أحد أسباب انسحاب الجيش الإسرائيلي من كليهما. في حقيقة الأمر، فإن السعي الجاد والصبور للولايات المتحدة لتحقيق السلام يؤدي إلى تعزيز واقع الدولة الواحدة: عرب إسرائيل يعمقون صلاتهم مع الفلسطينيين في الضفة الغربية؛ والمستوطنات تنتشر؛ والبؤر الاستيطانية تحظى بالشرعية؛ وتزداد قوة الوزراء والبرلمانيين الإسرائيليين الذين يدعون إلى ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية قوة فوق قوة. تم شق طرق وإقامة حدائق جديدة في القدس الشرقية العربية بشكل يجعل أي تقسيم واقعي للمدينة غير ممكن. فلسطينيو القدس الشرقية معزولون عن الضفة الغربية، ويستلمون أوامر إخلاء من منازلهم، أو ينتقلون إلى الطرف الآخر من الجدار الفاصل. وطوال هذا الوقت تساعد المفاوضات غير المثمرة على تقويض مصداقية نموذج الدولتين وتؤكد على عمق الهوة بين الطرفين.

رغم النوايا الطيبة التي يعبّر عنها المتشككون، والمؤنبون، والمحتضنون، فإن الولايات المتحدة هي سبب الركود الحاصل وليست علاجاً له. إنها تحرم أي طرف ثالث ـ سواء أكان عربياً أو أوروبياً ـ من دور ذي معنى في عملية السلام وهي تفاوض وتضع المقترحات دون التشاور بشكل كافٍ أو التفكير بمخاوف واهتمامات الشرائح التي سيكون دعمها أمراً محورياً لسلام دائم. وهذه الشرائح تضم الصهاينة المتدينون واليهود المتزمتون إضافة إلى الإسلاميين ومواطني إسرائيل الفلسطينيين، واللاجئين. الولايات المتحدة تخبر الفلسطينيين أن محادثات السلام، وكذلك الدعم الغربي، مشروطان بوقف الخطوات الفلسطينية لممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل. تلك الخطوات ـ التي، رغم شعبيتها لدى الجمهور، تتعارض مع أو ينظر إليها بقلق من قبل العديد من القادة الفلسطينيين ـ وتشمل الاحتجاجات الشعبية، والمقاطعة والعقوبات، والدعاوى القضائية، والسعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية في مختلف المؤسسات الدولية، ووضع القيود على التعاون الأمني مع إسرائيل. كما أنها تشمل إصلاحات داخل منظمة التحرير الفلسطينية للسماح بانضمام حماس وغيرها من الفصائل التي تم إقصاؤها. الولايات المتحدة تعارض مثل هذه الإصلاحات، التي تعد ضرورية لتحقيق المصالحة الفلسطينية الحقيقية، لكنها لا ترى أن المفاوضين الفلسطينيين لن يتمتعوا بشرعية تذكر بدونها.

السياسة الأمريكية مصممة لإفشال الجهود التي من شأنها أن ترفع تكاليف الوضع الراهن، وفي الواقع احتوائه. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة تبذل جهداً كبيراً في محاولة إقناع القادة الإسرائيليين والفلسطينيين غير المقتنعين بأن استمرار المأزق لا يمكن قبوله. لكن معظم الناخبين الإسرائيليين، وكثيرين في أوساط النخبة الفلسطينية، متأقلمون مع الظروف القائمة حالياً، بفضل الولايات المتحدة. وسيبقى هذا هو الحال طالما ظل الأنصار المختلفون لعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة يصرون على التوسط في الصراع حتى عندما تسهم مساعدتهم في إدامته.

بدلاً من قبول الظروف الراهنة في محاولة لعدم إلحاق الضرر باحتمال التوصل إلى تسوية متفاوض عليها لحل الدولتين، بوسع الولايات المتحدة أن تشترط استمرار دعمها بتغييرات أحادية تنسجم مع عملية التقسيم. نتنياهو يدعي أنه يفضل إقامة دولة فلسطينية. في أي اتفاق مستقبلي قائم على دولتين، سيطلب المسؤولون الفلسطينيون، والأوربيون والأمريكيون أن تشمل الدولة الفلسطينية، على الأقل، 91.5% من أراضي القدس والضفة الغربية شرق الممر الذي من المُخطط أن يقام في مكانه جدار فاصل. بوسع الولايات المتحدة أن تفرض الضغوط على إسرائيل لتقليص وجود الاحتلال بشكل كبير في هذه المنطقة ومنح درجة أكبر من السيطرة للفلسطينيين.

وفي الوقت نفسه، يمكن للولايات المتحدة أن تعكس معارضتها لتشكيل قيادة موحدة لمنظمة التحرير الفلسطينية. دون مثل تلك القيادة لا يمكن التوصل إلى تعايش مستقر بين الإسرائيليين والفلسطينيين ولا يمكن لأي قائد لمنظمة التحرير الفلسطينية أن يتجنب تهمة كونه "أضعف من أن يتمكن" من صنع السلام. كما يمكن للولايات المتحدة أن تلغي تهديداتها ضد انضمام فلسطين إلى المعاهدات والمؤسسات الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية. ستشكل العضوية في مثل تلك المنظمات حماية ضد احتمال القومية المزدوجة وتعزيز الدولة الفلسطينية التي تدّعي الولايات المتحدة أنها تدعمها.

إلاّ أن الحوافز السياسية للولايات المتحدة لعكس هذه المسارات في سياساتها ليست موجودة. إن المزايا المحتملة لإقامة دولة فلسطينية صغيرة، وفقيرة، وغير ذات أهمية استراتيجية ضئيلة بالمقارنة مع تكاليف الضغط على حليف موثوق يتمتع بنفوذ كبير إقليمياً وفي المشهد السياسي الداخلي في الولايات المتحدة. حتى لو تم اتخاذ الخطوات التي ذكرتها، فإنه لن يكون هناك ضمانة لمستقبل سلمي. لكن على عكس السياسات الراهنة، فإنها على الأقل تقدم إمكانية قيام مستقبل أفضل.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.