الديناميكية المزدوجة للصراع السوري
الديناميكية المزدوجة للصراع السوري
Op-Ed / Middle East & North Africa 3 minutes

الديناميكية المزدوجة للصراع السوري

إذا كانت ثورتا تونس ومصر قد لعبتا بعض الفصول الدرامية القليلة، الحاسمة والبسيطة نسبياً، تبدو الدراما السورية أكثر تعقيداً، إلى حد أنه لا يمكن التنبؤ بخاتمتها. وعليه، ينبغي على المرء متابعة جميع حلقاتها عن كثب والتنبّه إلى ارتدادات أحداثها 

يستند العنف الذي يعصف بالبلاد الى مسار مزدوج. فمن ناحية، هي انتفاضة الأرياف التي أهملها نظام ينحدر منها. حافظ الأسد الذي انتمى إلى جيل من 'الدخلاء' الريفيين ذي الخلفيات المتنوعة، ناضل من أجل تسلق السلم الاجتماعي والاستيلاء على السلطة التي كانت حكراً على نخبة شبه إقطاعية، وسعى من بعد ذلك إلى توسيع الدولة نحو الأطراف، من خلال توفير الخدمات وتمديد الشبكة الإدارية، وانتشار حزب البعث، وتنفيذ مشاريع تنموية كبرى، وما إلى ذلك 

إلا أن جيل اليوم الممسك بمقاليد السلطة نسي أصوله، فقد ترعرع في دمشق واختلط بالنخبة الحضرية التي تظاهرت بقبوله، واستثمر في عملية تحرير السوق التي لم تستفد منها سوى المدن الكبرى على حساب الأرياف، كما هي الحال في بلدان أخرى في المنطقة. وفي هذه المحافظات المنسية، تلاشى وجود الدولة والحزب معاً، تاركين للأجهزة الأمنية مهمة احتواء المشكلات المتزايدة، من خلال السعي إلى تسويات مؤقتة مع مهربي المخدرات والإسلاميين وشبكات الفساد. أضحى هذا الإرث واضحاً مثل ضوء الشمس في جميع أصقاع البلاد تقريباً 

أما الجانب الآخر للثورة في سورية فيتمثل بثأر النظام البوليسي العلوي، الذي تشكل على القمع المفرط في أوائل ثمانينات القرن المنصرم، حين واجه النظام حركة تمرد مذهبية هيمنت عليها جماعة الإخوان المسلمين. هذا النظام البوليسي الذي ورثه بشار، قام بتفكيكه جزئياً من خلال طرد بارونات المخابرات والتخفيف من تجاوزات عملائهم، إلا أن الخاسرين من هذه العملية عادوا بقوة الآن. ويتبع بشار التيار، كما فعل سابقاً في أوقات الأزمات 

يختلف ما يحدث على أرض الواقع كثيراً عن الرواية الرسمية، وإن لم يكن النظام على خطأ على الأصعدة جميعاً. الثورة بحسب الخطاب الرسمي هي تمرد ذو طابع إسلامي، توجهه أياد خارجية على غرار ما حدث في الثمانينات، إلا أن النظام يحارب قواعد دعمه الاجتماعية أكثر من محاربته لقواعد الإخوان المسلمين التي لم تلاق مبادراتهم الموجهة من الخارج أصداء على مستوى الشارع. وإن كان هناك حقاً أصولية، فهي في الأساس نتيجة الفراغ الذي تركه حزب واهن، ودولة غائبة، وقيادة متحصنة في العاصمة 

لم يعد يرى سكان المحافظات اليوم من النظام سوى وجهه الأسوأ المتمثل بالأجهزة الأمنية التي لا تكتفي بمجرد قمع المكوّن المسلح من حركة الاحتجاج، وإنما تسعى لسحقها برمتها، من خلال الاستخدام المفرط للقوة ومضاعفة الإذلال، في محاولة منها لإعادة تشييد حاجز الخوف، ولكن من دون جدوى: فإذا كان هناك شيء واحد لن يسمح له المتظاهرون بتحديد مستقبلهم فهو حكم المخابرات. فما يريدونه في الأساس هو حكم الدولة، أي شكل من أشكال الحكم الذي يضمن التمثيل السياسي وإعادة توزيع اقتصادي أكثر إنصافاً، ويؤمن لهم ملجأ يقيهم من عنف الأجهزة الأمنية 

تدعم الأغلبية الصامتة ضمناً النظام لخوفها المبرّر من أن يعجّل سقوطه انهيار ما هو قائم من بنية الدولة. وينطبق ذلك على نسبة كبيرة من الأقليات (التي ترتعد من فكرة الهيمنة الإسلامية على الأجندة)، والطبقة الوسطى (التي تعتمد إلى حد كبير على الدولة)، ورجال الأعمال (الذين يخشون على مصالحهم الدنيوية). تُقلق ثورة المحافظات هذه الأطراف كما لا تطمئنها دعوة معارضة المنفى إلى الإطاحة بالنظام من دون حتى التطرق إلى البدائل الممكنة

وفي حين يُطلب من النظام توفير قدر من الاستقرار، يتصرف هذا الأخير على نحو فوضوي، سواء على صعيد القمع، أو الإصلاح، أو الحوار مع المعارضة، أو في إدارة العواقب الاقتصادية للاضطرابات، مظهراً بذلك لنسبة متزايدة من الأغلبية الصامتة عدم قدرته على إيجاد مخرج للأزمة. وإلى الآن، إذا كانت الثنائيـــة التي قدمها النظام 'نحن أو الفوضى' قد خدمته جيداً في بداية الأمر، إلا أن أعداداً متزايدة من السوريين يرددون: 'إذا كان لا بد من الفوضى، فحري بنا الاستغناء عنكم'. وهكذا، وضع النظام أسساً لتعبئة جماهيرية تتجاوز بأضعاف إطار تمرد المحافظات 

وعليه، إذا كان احتمال حصول سيناريو آخر ضعيفاً، فإنه لا يمكن استبعاده كلياً. تثبت المقاربة الأمنية التي اعتمدها بشار، والتي تتولى تنفيذها نخبة حريصة على حماية مصالحها وتعزيزها، فشلها بشكل واضح. وإذا كان النظام تمكّن من احتواء حجم التعبئة، إلا أنه لن يتمكن من إخمادها بالكامل، بل ستكون - هذه التعبئة- محفزاً لعسكرة البعض من فئاتها التي تلحق بالأجهزة الأمنية خسائر لن تتمكن هذه الأخيرة من تحملها مع مرور الوقت. كما أنها تساهم في ديمومة حالة عدم الاستقرار التي تسلب النظام ما تبقى له من تأييد. ومع وجود العديد من الأعداء، في غياب قاعدة شعبية قوية، لن يتمكن النظام من النجاة

والحال، فإن الفشل قد يجبر النظام على السعي بجدية أكبر وبإخلاص لإيجاد مخرج للأزمة السياسية، عندما سينفد ما يمكن لأنصار الحل القمعي تقديمه. وإن كان الأمل بأن يأخذ بشار زمام المبادرة وأن يشارك في ثورة ضد حاشيته - كان دائماً هذا الأمل وهماً - إلا أن تتغير الديـــناميات داخل النخبة نفسها لصالح المكونات المهمشة الأكثر اعتدلاً ما يزال ممكناً 

يمثل كفاح الأسرة الحاكمة لبقائها في بيئة من الفساد وانعدام الكفاءة والإفلات من العقاب معركة لا بد أن تخسرها. القضية الوحيدة التي يمكن للسلطة أن تأمل بالدفاع عنها هي قضية الدولة، التي ستستلزم التراجع عن العديد من الجوانب التي جعلت من السلطة 'نظاماً'. لدى النظام في هذه المرحلة الخيار بين التفكك من خلال أخطائه وتجاوزاته ليصل إلى الانهيار، أو أن يفكك نفسه بشكل طوعي ومنتظم، إذا اتخذ الخيار الثاني، سيكون في أمس الحاجة إلى كل التشجيع الذي يمكن للمجتمع الدولي أن يقدمه 

إذاً، يمكن المراهنة على أن النظام سيختار طريق الانتحار الجماعي. سيعتمد كل شيء حينها على عزيمة المجتمع السوري، الذي يقاوم حالياً لعبة الانفجار من الداخل التي تمارسها السلطة، سيعتمد على عزيمته على دفع السلطة باتجاه ذلك الطريق من غير أن ينجرَّ خلفها 

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.