ماذا كان على المحك في المحادثات السورية في أستانة؟
ماذا كان على المحك في المحادثات السورية في أستانة؟
What Comes After the Bloody Battle for Aleppo?
What Comes After the Bloody Battle for Aleppo?
Participants at the Syria peace talks meet in Astana, Kazakhstan, for the first session on 23 January 2017. SPUTNIK/Болат Шайхинов
Commentary / Middle East & North Africa 12 minutes

ماذا كان على المحك في المحادثات السورية في أستانة؟

مع انطلاق جولة جديدة من محادثات السلام المدعومة من روسيا وتركيا حول سورية، ينظر كبير محللي الشؤون السورية في مجموعة الأزمات الدولية، نوح بونسي، إلى الديناميكيات السياسية المتغيرة والتحديات المستقبلية.

ماذا على أجندة محادثات السلام في أستانة، كازاخستان؟

هنا في أستانة، تُسلَّط الأضواء على المحادثات بين الحكومة السورية وأعضاء المعارضة المسلحة، إلا أن هذا لا يعدو كونه عرضاً مسرحياً. في الواقع، ثمة شعوراً متنامياً في أوساط الدبلوماسيين والصحفيين والمحللين الذين ينتظرون في ردهة الفندق ومقهاه، بأننا نحن أيضاً جزء من العرض. أما الحدث الأكثر جوهرية فيتمثل في النقاشات الجارية بين روسيا وتركيا وإيران، رغم أنه لم يتم كشف الكثير عن محتوى هذه النقاشات.

إن مجرد حقيقة أن روسيا وتركيا وإيران تقود المحادثات ــ وبمشاركة محدودة من الولايات المتحدة بصفة مراقب، وعدم وجود أية مشاركة على الإطلاق من السعودية ــ يعكس مدى انتقال مركز الثقل في الحرب السورية. ويأتي هذا نتيجة للتقدم العسكري الذي أحرزه النظام وداعموه، وضعف النفوذ الأمريكي (في الوقت الراهن على الأقل) في الصراع المركزي للقوى في هذا النزاع، وتراجع الرياض عن لعب دور في سورية (بسبب غرقها في المستنقع اليمني وضعف شركائها المفضلين بين فصائل المعارضة المسلحة).

بالنسبة للمجتمعين في أستانة، فإن التركيز الرئيسي هو على وقف إطلاق النار المترنح الذي يتم الالتزام به جزئياً والذي تم التفاوض عليه بين روسيا وتركيا في أواخر كانون الأول/ديسمبر بعد أن استعاد النظام السيطرة على الجزء الشرقي من حلب. نظرياً، يغطي وقف إطلاق النار جميع أجزاء البلاد التي تسيطر عليها المعارضة غير الجهادية والقوات الموالية للنظام، بينما يسمح باستمرار الهجمات على تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام، وهي فصيل سلفي جهادي كان يُعرف سابقاً بجبهة النصرة، واحتفظ حتى وقت قريب بعلاقات رسمية مع تنظيم القاعدة. أما من الناحية العملية، فإن وقف إطلاق النار خفض حدة العنف في الشمال، لكنه أخفق في منع الهجمات المستمرة للنظام على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في ريف دمشق .

إنه لأمر مهم أن المحادثات تجري في الحديقة الجيوسياسية الخلفية لروسيا، وأن الكرة باتت بشكل أساسي الآن في ملعب موسكو. هل ستمضي روسيا أبعد مما فعلت حتى الآن في الضغط من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار مستدام قادر على المحافظة على الانخراط التركي والالتزام من قبل فصائل المعارضة المسلحة غير الجهادية؟ وإذا اختارت فعل ذلك، هل تستطيع أن تضمن تعاون النظام وإيران؟ لا نعرف الجواب حتى الآن.

هل ثمة علامات على أن هذه المحادثات ستحقق نجاحاً أكبر من ذاك الذي حققه العديد من الجهود الدولية التي أخفقت على مدى هذه الحرب؟

تتمتع روسيا وإيران وتركيا جميعها بنفوذ كبير على الأرض في سورية، وهو ما يمكن استعماله من أجل خفض مستويات العنف بشكل جذري.
للأسف، فإن ديناميكيات رئيسية ساهمت في فشل حالات وقف إطلاق النار الجزئية السابقة لا تزال موجودة. لا يزال هناك أسئلة كبيرة تتعلق بمواقف كل من دمشق وطهران. يبدو النظام عازماً على البقاء في حالة هجوم، بما في ذلك من خلال استخدام حلب كمنصة للسيطرة على مناطق إضافية في محافظة إدلب. وإيران لا تعبّر عن تفضيلاتها بصراحة؛ لكن منذ بداية التدخل الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، أظهرت طهران ووكلاؤها بوضوح أنهم يجدون ميزة في الاستمرار في حالة الهجوم.

إنه لأمر مهم أن المحادثات تجري في الحديقة الجيوسياسية الخلفية لروسيا، وأن الكرة باتت بشكل أساسي الآن في ملعب موسكو.

يسعى النظام والميليشيات المدعومة من إيران إلى التوصل إلى حالات وقف إطلاق نار محلية وليس على مستوى البلاد؛ حيث إنهم يحققون ذلك بشروط مواتية من خلال فرض عقاب جماعي صارم على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ومن ثم استغلال الهدوء الناجم عن ذلك لنقل القوات نحو التصعيد في أماكن أخرى. تشكل تلك الاتفاقات مكوناً رئيسياً في استراتيجيتهم العسكرية، حيث تسمح لهم بتوسيع سيطرتهم بينما تقلل إلى الحد الأدنى الإجهاد الذي تعاني منه قواهم البشرية المحدودة.

إن وقف إطلاق نار شامل على مستوى البلاد، إذا تم تنفيذه، سيمنع شن هجمات إضافية ضد المعارضة غير الجهادية، وبالتالي فهو أمر غير مرغوب به من منظورهم. في الواقع، فإن إحجام النظام وإيران عن عدم استغلال الفرص لتحقيق تقدم عسكري لعب دوراً حاسماً في تآكل أول وقف للأعمال القتالية في مطلع عام 2016. كما أنه يساعد على تفسير إخفاق وقف إطلاق النار الحالي في الصمود في محيط دمشق، حيث يشكل القضاء على ما تبقى من جيوب للمعارضة المسلحة أولوية قصوى بالنسبة للنظام وإيران. كما تحتوي محافظة إدلب التي تشكل معقلاً للمعارضة المسلحة ما يبدو أنها أهداف رئيسية للنظام وإيران، خصوصاً مدينة جسر الشغور والمناطق المحيطة بها والمحاذية لمحافظة اللاذقية التي يسيطر عليها النظام، وقريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين.

كي يكون لوقف إطلاق النار أي فرصة في تحقيق نجاح طويل الأمد، فإن ثمة المزيد مما ينبغي على رعاة الاتفاق فعله. على تركيا أن تفعل المزيد لتوفير الحوافز لالتزام فصائل المعارضة المسلحة به ومعاقبة منتهكيه في أوساط جميع فصائل المعارضة التي تدعمها، بما في ذلك أحرار الشام. كما ينبغي أن تفعل روسيا المزيد لوقف هجمات حلفائها، وذلك من خلال استعمال اعتمادهم على دعمها الجوي لممارسة نفوذها عليهم. كما أن إشراك إيران أمر حاسم؛ حيث إن لديها أدوات كثيرة تمكنها من إفشال تنفيذ أي اتفاق يتم إنجازه على حسابها. في هذا الصدد، سيكون من المثير للاهتمام مراقبة الدور الإيراني خلال محادثات أستانة وبعدها.
 

هل يمكن التوصل إلى وقف إطلاق نار فعال دون إشراك عناصر من المعارضة الجهادية أيضاً، إن لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية، فربما فتح الشام؟

في الواقع، فإن فتح الشام، وهو فصيل سلفي جهادي مرتبط بالقاعدة وأحد أكثر فصائل المعارضة المسلحة قوة، يشكل عقبة كبرى أمام استمرار وقف إطلاق النار. كما في الحالات السابقة لوقف الأعمال القتالية، فإن فتح الشام مستثنى من هذا الاتفاق. في الواقع، فإنه في كل وقف لإطلاق النار واجه فتح الشام احتمال أن يصبح الضحية الرئيسية، حيث إن أي انخفاض مستمر في مستويات العنف داخل مثل هذا الإطار من المرجح أن يبرز تباين المصالح بين الفصيل الجهادي وباقي أطياف المعارضة المسلحة، بينما يسمح باستمرار الضربات ضده في هذه الأثناء. علاوة على ذلك، فإن استبعاد فتح الشام يشكل ثغرة كبرى تمكّن النظام وحلفاءه من الاستمرار في هجماتهم، مستخدمين وجود مقاتلي فتح الشام، الحقيقي أو المتخيل، ذريعة لهم. حدث هذا خلال وقف الأعمال القتالية في مطلع عام 2016، ويحدث حالياً في وادي بردى، شمال غرب دمشق، الذي استمر النظام في مهاجمته طوال وقف إطلاق النار. (يورد النظام الوجود المزعوم لفتح الشام لتبرير هجومه في وادي بردى. إن وجود الفصيل هناك موضع نزاع، لكن يبدو أنه يشكل في الحد الأقصى أقلية صغيرة من مقاتلي المعارضة المسلحة في تلك المنطقة). 

إن القدرة الإجمالية الكامنة على إفشال وقف إطلاق النار لدى النظام وإيران (بما في ذلك الميليشيات التي تعمل بالوكالة عنها) من ناحية وفتح الشام من ناحية أخرى هي قدرة هائلة، وقدرة كل طرف على الإفشال تعزز ذات القدرة لدى الطرف الآخر أيضاً. تستخدم الهجمات التي يشنها الطرف الأول كمبرر لشن هجمات من قبل الطرف الثاني، والعكس بالعكس. بمرور الوقت، فإن التصورات عن الانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار يجعل من السهل على فتح الشام إقناع الفصائل الأخرى في المعارضة المسلحة باستئناف هجماتها. رأينا هذا خلال وقف الأعمال القتالية في مطلع عام 2016، عندما امتنعت الفصائل الشمالية المشاركة في الاتفاق في البداية عن المشاركة في الهجمات التي شنها فتح الشام (الذي كان يُعرف حينذاك بجبهة النصرة)، لكنها أقنعت لاحقاً بالانضمام إليه. إن أي تآكل في مشاركة المعارضة المسلحة غير الجهادية في وقف إطلاق النار يزيد من تلهف دمشق وطهران لاستعادة زمام المبادرة العسكرية، وقد يزيد من الضغوط على روسيا لتوفير الدعم الجوي المطلوب.

إن وقف إطلاق نار قابل للحياة يتطلب إعادة النظر في استبعاد فتح الشام. نظرياً، إذا كان هناك إجماع على أولوية تخفيف حدة العنف في سورية، فإنه سيكون من الأفضل محاولة إشراك فتح الشام في أي وقف لإطلاق النار. إذا قبلوا بذلك، فسيكون ذلك جيداً؛ وإذا رفضوا، فإن مهمة عزلهم عن عناصر المعارضة الأكثر براغماتية قد يصبح أسهل. لكن عملياً، لم يتم التوصل إلى مثل ذلك الإجماع، كما أن تحقيق مشاركة الروس والإيرانيين أو حتى الأمريكيين في اتفاق يضم هذا الفصيل أمر غير واقعي. بالنظر إلى أن العمل يجري ضمن هذه القيود، فإن البديل الأفضل سيكون إشراك فتح الشام في كل وقف لإطلاق النار، ولفترة محددة من الزمن، في المناطق التي لفتح الشام بعض الوجود فيها دون أن يتمتع بسيطرة أحادية. إن الوقف المستدام للهجمات الموالية للنظام في هذه المناطق سيسمح لتركيا وحلفائها في المعارضة ببعض الوقت لاستخدام المساحة و الموارد ورأس المال السياسي اللازمة لمعالجة مشكلة فتح الشام في أوساطها.

ما الذي تكسبه المعارضة من المشاركة في هذه المحادثات؟

تدخل المعارضة المفاوضات من موقف ضعف. لقد كان لخسارة شرق حلب تداعيات عسكرية وسياسية كبيرة فاقمت الانقسامات بين الفصائل المسلحة وداخلها. وقد ظهر هذا في أبرز أشكاله على أساس خط فصل مألوف بين السلفيين الجهاديين المتشددين من ناحية وفصائل المعارضة المسلحة غير الجهادية والأكثر براغماتية التي تعرّف نفسها بأنها "ثورية" من ناحية أخرى. إن ارتفاع حدة التوتر هذا يهدد بانقسام أحد أقوى فصائل المعارضة المسلحة، أحرار الشام، الذي كان ولوقت طويل عابراً لخط الفصل هذا. كما أنه غذى الصدامات بين أعضاء فتح الشام وفصيل جند الأقصى الجهادي المتحالف معه، من جهة، وأحرار الشام والفصائل "الثورية" الأصغر من جهة أخرى. بدأ الجزء الأكبر من هذا الاقتتال الداخلي في 23 كانون الثاني/يناير، عندما أطلق فتح الشام هجوماً تم تنسيقه مسبقاً على جيش المجاهدين، وهو فصيل غير جهادي يعمل غرب حلب (انظر أدناه).

إن وقف إطلاق نار قابل للحياة يتطلب إعادة النظر في استبعاد فتح الشام.

تمكنت أنقرة من إقناع معظم الفصائل "الثورية" بحضور محادثات أستانة، مع الاستثناء البارز لأحرار الشام. سترغب هذه الفصائل بتوسيع وتعزيز قوة وقف إطلاق النار. إلا أن الضعف في ميدان المعركة يحد من نفوذ وفد المعارضة في المحادثات؛ كما تطرح الانقسامات داخل صفوف المعارضة قضية التكاليف والمخاطر المحتملة لأية تنازلات توافق عليها.

إن التفاوض في ظل مثل هذه الظروف الصعبة مع خصم مثل النظام السوري، الذي تحاشى التوصل إلى تسوية ذات معنى حتى عندما كان أضعف بكثير، يعني أنه ليس هناك الكثير مما يستطيع موفدو المعارضة تحقيقه بأنفسهم في أستانة. إنهم يسعون لتوسيع تنفيذ وقف إطلاق النار، لكنهم يعتمدون في تحقيق ذلك أولاً على قدرة تركيا على الحصول على تسوية من روسيا، وثانياً على قدرة روسيا على الحصول على قبول إيران وتنفيذ النظام لتلك التسوية. إن التنفيذ غير المتسق لوقف إطلاق النار الحالي يشير إلى أنه في حين أن الانخراط التركي ــ الروسي كبير، فإنه غير كافٍ لتغيير كيفية معالجة النظام وإيران لأولوياتهما العسكرية حول دمشق.

ما هو أثر التفافة تركيا الكبيرة على آفاق السلام؟
​​​​​​​

ثمة عامل بارز يميز وقف إطلاق النار هذا عن "وقف الأعمال القتالية" الذي سبقه يتمثل في درجة الانخراط التركي المباشر. في الوقت الراهن على الأقل، فإن تركيا حلت محل الولايات المتحدة بوصفها المحاور الرئيسي لروسيا في التفاوض على مثل هذه الترتيبات. وهذا أمر مهم، حيث تتمتع تركيا بنفوذ مباشر أكبر، وتحظى بثقة أكبر، لدى الفصائل المسلحة غير الجهادية في المعارضة التي تشارك في هذه الاتفاقات.

تعد تركيا الحليف الأكثر أهمية للمعارضة، وانتقالها للتنسيق الكبير مع روسيا أصبح إحدى النقاط الرئيسية للخلاف داخل المعارضة. دفعت أنقرة شركاءها في المعارضة للموافقة على وقف لإطلاق النار وحضور محادثات أستانة بشكل أساسي لأسباب تخصها؛ حيث يشغلها صراعها عبر الحدود مع حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، وإدراكاً منها لضعف الأوراق العسكرية لدى المعارضة، وحرصاً منها على بناء علاقات أفضل مع موسكو. التزمت معظم الفصائل بذلك، رغم الضغوط المكثفة المعاكسة من فتح الشام.

أين سيترك التغير في الموقف التركي المعارضة السورية؟

في الحد الأدنى، فإن الفصائل "الثورية" في المعارضة، بما في ذلك أحرار الشام، تقف على مفترق طرق استراتيجي.

هل ستبقى متحدة إلى جانب تركيا، التي لم تعد تؤكد على هدف استبدال الرئيس السوري بشار الأسد ــ  رغم أنها لم تتخلَ عنه تماماً ــ  لكن التي يمكن أن تساعد المعارضة في الاحتفاظ بالمناطق التي لا تزال تسيطر عليها من خلال استمرار الدعم العسكري، وأيضاً من خلال ترتيبات متفاوض عليها مع روسيا؟ هذا المسار يقيد الخيارات الهجومية للمعارضة غير الجهادية، على الأقل على المدى القصير، كما يصعد التوترات مع فتح الشام. لكنه يوفر لها أفضل فرصة للاحتفاظ بالأراضي والنفوذ السياسي.
 

على 'ثوار' المعارضة أن يكونوا واضحين: إن استمرارهم بربط مصيرهم بمصير فتح الشام سيدفع بثورتهم ... إلى حرب عصابات غير متناظرة طويلة الأمد

بدلاً من ذلك، بوسع المعارضة غير الجهادية أن ترفض المسار الدبلوماسي الذي تحثها عليه تركيا، والاقتراب أكثر من فتح الشام. من شأن هذا أن يجنبها إحراج تقديم تنازلات مريرة، ويقلل من مخاطر نشوب حرب بين فصائل المعارضة. لكنه يمكن أن يكلفها أيضاً فقدان الدعم الذي توفره الدول، ومن شبه المؤكد أنه سيعرضها لضغوط عسكرية متزايدة. مع عدم وجود وقف إطلاق نار على الطاولة، من المرجح أن ترمي روسيا بثقلها خلف هجمات عسكرية موسعة ومكثفة. وكما اثبت مصير شرق حلب، سيترتب على ذلك قدر كبير جداً من سفك الدماء والدمار في مناطق المعارضة، ما سيؤدي في المحصلة إلى خسارة المزيد من الأراضي.

وهكذا، على "ثوار" المعارضة أن يكونوا واضحين؛ حيث إن استمرارهم في ربط مصيرهم بمصير فتح الشام سيغير دورهم في الصراع. سيقلص نطاق الأراضي التي يسيطرون عليها وسيدفع بثورتهم، سواء كان ذلك باختيارهم أو بحكم النتيجة المحتومة، إلى استراتيجية حرب عصابات غير متناظرة طويلة الأمد. هذا سيناسب قيادة فتح الشام والسلفيين الجهاديين الآخرين، حيث إن التكتيكات المطلوبة تحقق مزايا نسبية لهم، ويبدو أنهم يفضلون استمرار الحرب سعياً لتحقيق أهداف أيديولوجية على التوصل إلى تسوية تهدف إلى المحافظة على ما تبقى من المكاسب التي حققتها المعارضة من حيث السيطرة على الأراضي وحماية النسيج الاجتماعي للمجتمعات المحلية. إلا أن المكاسب التي يحققها الراديكاليون ستكون خسائر للفصائل "الثورية". نظراً لكونها أكثر اعتماداً على الدعم الخارجي الذي تقدمه الدول وكونها أقل كفاءة في تكتيكيات حرب العصابات من نظيراتها الجهادية، فإنها ستفقد وزناً نسبياً داخل الثورة إلى جانب استمرار خسارتها للأراضي، وبالتالي التخلي عن أهميتها السياسية.

هل لك أن تخبرنا بالمزيد عن الاقتتال الحالي بين فتح الشام والفصائل المعارضة الأخرى؟

لم يكن هجوم فتح الشام على جيش المجاهدين غرب حلب مفاجئاً.

قرار عدة فصائل "ثورية" (بما فيها جيش المجاهدين) حضور محادثات أستانة رفع من حدة التوترات بينها وبين فتح الشام. عامل آخر يفاقم هذا الانقسام يتمثل في التوسع الأخير والتصعيد في الضربات الأمريكية التي تستهدف قيادة ومنشآت فتح الشام. لقد لعبت الولايات المتحدة دوراً في دعم جيش المجاهدين وغيره من الفصائل "الثورية" على مدى السنوات الثلاث الماضية، وبالتالي فإن حقيقة أن الطائرات الأمريكية دون طيار تقتل الآن قادة فتح الشام يغذي شكوك الجهاديين حيال تلك الفصائل ويوفر في الوقت ذاته ذريعة لمهاجمتها. 

لقد أجج هجوم فتح الشام غضباً واسعاً داخل فصائل المعارضة المسلحة الأخرى، ويعبر العديد منها عن تضامنه مع جيش المجاهدين. لكن ذلك وحده لم يرقَ إلى الكثير، بالنظر إلى مهارة فتح الشام في تكتيكات فرّق تسد وميلها للإمساك بزمام المبادرة. إذا لم تنسق الفصائل "الثورية" بشكل أفضل لردع مثل تلك الهجمات والدفاع عن نفسها ضدها، فإن دورها في شمال سورية سيتلاشى أكثر فأكثر.
 

ما مدى الراحة التي يشعر بها نظام دمشق وحلفاؤه مع تضاعف عدد المشاكل التي تعاني منها المعارضة؟

إن النظام وحلفاءه في وضع أفضل بكثير من وضع المعارضة في الوقت الراهن، وفي الواقع فهم مرتاحون في بعض النواحي أكثر بكثير مما كانوا عليه منذ عام 2012. لكن ورغم أن زخمهم العسكري في حده الأقصى، فإنهم لا زالوا يعانون من نقطة ضعف تتمثل في نقص المقاتلين السوريين المقتدرين الذين يمكن الركون إليهم. 

إن التناقض الصارخ الذي ظهر في كانون الأول/ديسمبر بين انتصار النظام في حلب وخسارته السريعة لتدمر أمام تنظيم الدولة الإسلامية أمر ملفت؛ ففي حين أن مزيجاً من العقاب الجماعي الوحشي، والدعم الجوي الروسي، ورجال الميليشيات الأجنبية المدعومة من إيران يمكن أن تؤدي إلى تحقيق النظام لمكاسب حتى في معاقل المعارضة، فإن النظام يفتقر إلى الموارد الكافية لتوفير حماية فعالة للمناطق ذات الأولوية الأدنى. تعاني قوات الأمن السورية من مشكلة خطيرة في القوى البشرية؛ وقد أخفقت الجهود الرامية إلى توسيع عمليات التجنيد الإجباري بشكل تدريجي على مدى الصراع في حلها.

يشكل هذا تحدياً رئيسياً لموسكو وطهران، اللتان تحملان عبء التعويض عن نقاط ضعف النظام. حتى مع كل مساعدتهما، فإن النظام يفتقر إلى الوسائل التي من شأنها أن تمكنه من هزيمة خصومه المسلحين بشكل نهائي. ما يستطيع فعله، إذا قدمت له إيران وروسيا ما يحتاجه من رجال وقوة نيران، هو أن يستمر في تقليص نطاق الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. إذا جعلت دمشق من المناطق التي تسيطر عليها الفصائل غير الجهادية أولوية لها، كما فعلت كثيراً من قبل، فإن هذا سيقلص بشكل أكبر وزنها السياسي الجماعي. لكن في إطار هذه العملية، فإن النظام وحلفاءه سيوسعون منطقة الأراضي التي ينبغي عليهم تخصيص مقاتلين هم بأمس الحاجة إليهم للسيطرة عليها، وسيتركون أنفسهم عرضة لاستراتيجية حرب العصابات غير المتناظرة التي تهدف إلى إضعاف إرادتهم وقدرتهم تدريجياً. 

إذا كان بوسع روسيا أن تضغط لتحقيق وقف إطلاق نار مستدام تدعمه تركيا، وتقبله إيران، ويلتزم به النظام والفصائل الثورية غير الجهادية، فإن النتيجة المحتملة ستكون تجميداً فعلياً للصراع

يمكن لتكتيكات المعسكر الموالي للنظام المتمثلة في تهجير السكان، والتي يستخدمها ضد المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، أن يخفف من التهديد إلى حد ما، لكن ربما بشكل لا يكفي لجعل التكاليف والمخاطر مستدامة بسهولة، بالنظر إلى محدودية قواه البشرية، والديموغرافيا السورية، وقوة ما تبقى من المعارضة المسلحة.

لا يبدو أن هذا الضعف أمام حرب عصابات طويلة الأمد، وقد تكون خطيرة، يشكل عاملاً عميقاً في عملية صنع القرار لدى النظام أو إيران. لكنهما غير قادرين على السيطرة على ما يكفي من الأراضي في معاقل الثوار الشمالية دون دعم روسي قوي. موسكو، من جهتها، بدت في كثير من الأحيان أكثر اهتماماً من حلفائها بمخاطر توسع النظام بشكل أكبر من قدرته على السيطرة وأكثر استعداداً لاستكشاف المسارات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وأخيراً مع تركيا.

إذا كان بوسع روسيا أن تضغط للتوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار تدعمه تركيا، وتقبله إيران، ويلتزم به النظام وفصائل المعارضة المسلحة غير الجهادية، فإن النتيجة المحتملة ستكون تجميداً فعلياً للصراع. وهذا سيحافظ على ما تبقى من المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة "الثورية"، لكنه سيمهد الأرضية لمواجهات موسعة مع فتح الشام والفصائل السلفية الجهادية الأخرى. كما أن ذلك سيعزز من موقع قوة النظام وسيحد من مخاطر التوسع بشكل يفوق قدرته على السيطرة.

ينبغي أن ننتظر ونرى كيف ستسهم محادثات أستانة هذه في عملية جنيف التي تدعمها الأمم المتحدة، حيث كان من المتوقع أن تبدأ الجولة القادمة من الاجتماعات في 8 شباط/فبراير. لكن لا يزال الطريق طويلاً أمام معالجة القضايا الكامنة، ناهيك عن التوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الصراع. 

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.