هزيمة الدولة العراقية، انتصارات على مراحل
هزيمة الدولة العراقية، انتصارات على مراحل
After Iraq: How the U.S. Failed to Fully Learn the Lessons of a Disastrous Intervention
After Iraq: How the U.S. Failed to Fully Learn the Lessons of a Disastrous Intervention
Statement / Middle East & North Africa 7 minutes

هزيمة الدولة العراقية، انتصارات على مراحل

إن التقدّم المُحرَز ضد المجموعات المسلحة الجهادية التي تحتل مناطق واسعة من شمال غرب العراق يقوِّض في الآن ذاته ما تبقى من دولة أدت هشاشتها وسوء أدائها إلى خلق البيئة التي تمكّنت فيها النزعة الجهادية من الظهور والانتشار في المقام الأول. ويتبدّى هذا في أجلى صوره في معركة تكريت، حيث إن الجزء الأكبر من القتال يقع على عاتق ميليشيات شيعية بتوجيه من قادة الحرس الثوري الإيراني. كي يتمكن ما تبقى من سلطة مركزية في بغداد من إعادة فرض نفسه في هذه المرحلة وإعادة بناء الدولة، ينبغي عليه استعادة دوره مباشرة بعد تحقيق الانتصارات التكتيكية في مناطق مثل تكريت وذلك بإعادة تمكين النخب المحلية، وتقديم الخدمات وتأسيس قوات أمن محلية شرعية. وسيكون ذلك ممكناً فقط إذا سعت إيران ـ التي أصبحت اللاعب الأكثر نفوذاً في العراق، وبالتالي تتحمل المسؤولية الأكبر عن مستقبله ـ والولايات المتحدة ـ التي التزمت بإعادة بناء الدولة العراقية على أنقاض تفكيكها عام 2003 ـ إلى تحقيق هذا الهدف بدلاً من استثمار الأولى في الميليشيات واستثمار الثانية في مؤسسات الدولة المتفككة مثل الجيش بوصفها الردود الضرورية والعاجلة على التهديد الجهادي. أظهر استيلاء تنظيم الدولة في العراق والشام على الموصل في حزيران/يونيو 2014 تداعي الدولة العراقية؛ حيث أثبتت قوات الأمن التي كانت قد توسّعت وتعززت قوتها على مدى أكثر من عقد من الزمن أنها فاسدة حتى العظم؛ وأدارت النخب السنية المحليّة ظهرها للمجتمعات التي أفرزتها وفضلت بدلاً من ذلك إقامة علاقة فاسدة ومدمّرة مع السلطات في بغداد؛ وصراعات على السلطة في العاصمة تترجم في كثير من الأحيان إلى التخويف والترهيب الطائفيين. منذ حزيران/يونيو، تدهورت الأوضاع نحو الأسوأ. رغم أن النخب العراقية والمسؤولين الأجانب على حد سواء أشاروا إلى أنهم يفهمون جسامة النواقص وما نجم عنها من أوضاع أمنية، فإنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر باستثناء التصريح بنواياهم بدعم الجيش وتمكين العرب السنة من خلال الحكم المحلي وتوفير الأمن وإطلاق عملية سياسية شاملة في العاصمة.

غير أن رئيس الوزراء الجديد، حيدر العبادي، تم تهميشه إلى حد بعيد بحكم التوسع الهائل لما يسمى مجموعات "الحشد الشعبي" وتكاثرها وتعزيز حِرَفيتها - وهي فعلياً ميليشيات شيعية تتمتع بدعم كبير لدى بعض شرائح المجتمع - وتولى قيادة المسعى الحثيث لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة بالوسائل العسكرية. لقد اكتسبت هذه المعركة طبيعة لامركزية، حيث يلعب الجيش دوراً محدوداً في أفضل الأحوال، ما أدى بدوره إلى تقليص دور رئيس الوزراء، القائد العام للجيش. في هذا الفراغ، تعمل الميليشيات بشكل يتجاوز سلطة الدولة، وتُقلِّص من مصداقيتها وتلتهم مواردها. إن الانتصارات التي تحققها هذه الميليشيات ـ في تكريت ومناطق أخرى ـ من المرجح أن يؤدي إلى ترسيخ وتطبيع دورها بشكل أكبر وعلى حساب الدولة، وهو ما سيفضي إلى تحوّل حاسم عن عملية بناء الدولة التي كان يفترض أنها أُطلقت مع الغزو الأمريكي عام 2003.

بدلاً من قصر النظر في تعريف التقدُّم المُحرَز في هزيمة تنظيم الدولة من منظور المكاسب العسكرية بأي ثمن، ثمة حاجة إلى منظور أوسع. لقد باتت الحملة العسكرية بديلة للإصلاحات اللازمة لتعزيز قوة الدولة ومبرراً لصرف الانتباه عن هذه العملية.

يقول رئيس الوزراء العبادي إن لديه أجندة إصلاحية، إلاّ أنه لم يُمنح التمكين اللازم لتحقيقها. من جهة، فإنه لا يستمد سوى سلطة محدودة من سيطرته على مؤسسات الأمن الوطني التي تبددت مصداقيتها وتقلّصت إمكانياتها بشكل جذري مع تحويل الموارد للميليشيات، وإلى وزارتي الداخلية والأمن الوطني، على وجه الخصوص، اللتان يسيطر عليهما خصومه السياسيون واللتان تعملان فعلياً بوصفهما العمود الفقري اللوجستي للميليشيات. ومن الناحية الأخرى، يواجه مقاومة مفتوحة في مجلس النواب، خصوصاً من الفصائل الشيعية المتشددة المدعومة من إيران، التي تعارض جهوده للتواصل مع العرب السنة وإعادتهم إلى الحياة السياسية. إن الخطاب الأكثر إيجابية والداعي إلى التفاعل الذي يتبناه العبادي لا يوفّر أكثر من غطاء للديناميكيات التقسيمية الكامنة التي كان يُقصد بتعيينه رئيساً للوزراء أن يساعد على معالجتها، وهو ما أفضى إلى مفارقة منح موافقة الدولة على إجراءات من شأنها أن تقوّض الدولة نفسها.

المخاطرة هي أنه، ومع رجحان ميزان القوى بشكل أكبر لصالح الميليشيات، فإنها ستكتسب القوّة التي تمكّنها من تقرير ما يحدث خلال وبعد العمليات العسكرية. لقد أظهرت علامات مثيرة للقلق، ورغم الدعوات لضبط النفس، فإنها انخرطت في نفس الممارسات الوحشية، وذات الطبيعة الطائفية التي انخرط بها خصومها في تنظيم الدولة، بما في ذلك الإعدامات بدون محاكمة وتهجير السكان في المناطق السنية ـ الشيعية المختلطة. علاوة على ذلك، ثمة خطراً يتمثل في أن ما سيحدث بعد المعارك قد يشمل عمليات انتقامية ضد العناصر المحلية تحت شعار العدالة الانتقالية، واستهداف أي شخص يُعتقَد بارتباطه بتنظيم الدولة، بشكل يذكّر بعملية اجتثاث البعث بعد عام 2003. دون مؤسسات محلية وبروز قادة معترف بهم لحكم المناطق السنية، قد ينتهي الأمر بلجوء الميليشيات إلى دعم عملاء محليين لها يفتقرون إلى الشرعية. وسيلحق ذلك ضرراً كبيراً بأجهزة الأمن المحلية.

تؤدي الحملة العسكرية إلى مفاقمة الشعور بانعدام الحيلة، والتهميش والإذلال بين العرب السنة الذين ساعدوا في نشوء تنظيم الدولة. بات كثيرون الآن يرون في الميليشيات الشيعية الوسيلة الواقعية الوحيدة لوضع حد للحكم الوحشي لتنظيم الدولة، إلاّ أن المزيج المكوّن من ضعف وانتهازية النخب العربية السنية والسلوك الطائفي الطاغي للميليشيات يجرّعهم مرارة الإهانة إضافة إلى الأذى الذي تعرضوا إليه على يد تنظيم الدولة. من شأن تَعمُّق أزمة الهوية وتردّي النسيج الاجتماعي في المناطق العربية السنية بدرجة أكبر تعزيز ذات العوامل التي حوّلت تنظيم الدولة إلى لاعب مهيمن هناك.

إن النزعة المتنامية في بغداد والجنوب لمساواة الميليشيات الشيعية بالجيش الوطني، وإعلان المرء لنفسه وطنياً في حين يُعبّر في الآن ذاته عن امتنانه لإيران على تدخلها، ووضع الرموز الوطنية تحت مظلة الرموز الشيعية ـ حيث باتت الأعلام السوداء، والصفراء والخضراء التي تشير إلى الحسين ابن علي ابن أبي طالب، الإمام الثالث لدى الشيعة، تحجب العلم العراقي ـ هي التي تعيد صياغة الهوية الوطنية العراقية بطرق ستسهم بشكل كبير في تعقيد الجهود المدفوعة بالنوايا الطيبة لتعزيز السياسات والحوكمة الأكثر تمثيلاً في البلاد.

كما أن العلاقة بين العراق وإيران تمر بمرحلة تحوّل سريع. قبل وقت ليس بالطويل، كان مشهد ضباط الحرس الثوري الإيراني يقودون المقاتلين العراقيين الذين يحملون أعلام الحسين في زحفهم على مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين أمراً لا يمكن تخيّله في كلا البلدين؛ أما اليوم فقد بات ذلك واقعاً يحظى بالكثير من التغطية. لقد قامت الطائرات الحربية الإيرانية بقصف الأراضي العراقية بموافقة بغداد، وبات يمكن الآن مشاهدة صور المرشد الأعلى خامنئي في العاصمة العراقية. في السياق المشوّش والمختلط والحافل بالصدامات في العراق الحديث، فإن التنازل عن السيادة الوطنية بات الوضع الطبيعي الجديد.

تقدّم الميليشيات نفسها بوصفها البديل الوحيد القابل للحياة لدولة فاشلة. على المدى القصير، فإن أي احتمال لتفكيكها وإعادة إدماجها لا يعدو كونه وهماً بالنظر إلى تاريخ العراق منذ عام 2003، والحجم والقوة والشرعية التي اكتسبتها هذه الميليشيات والقدرات المحدودة للجيش على استيعاب قوة أكبر منه بكثير. الأمر الأكثر ترجيحاً هو تسميتها بالحرس الوطني، ككيان أشبه بالدرك يؤسَّس بقانون ليحل محل الجيش بوصفه قوة الأمن الداخلية الرئيسية. إلاّ أنها ستستمر بالعمل كملاذ وحاضنة لجيل عدمي من الشباب العراقي الذي ليس لديه أية تطلعات مستقبلية، وعرضة لأشكال مفرطة من العنف ومشبع بخطاب طائفي عميق ـ في نسخة مطابقة للشباب السني الذي يندفع نحو تنظيم الدولة. حتى إذا أُخرِج تنظيم الدولة من العراق، فإن هذه الميليشيات الكبيرة ستظل مشكلة كبيرة، سواء داخلياً من خلال السلوك الإجرامي أو من خلال إعادة توجيه طاقاتها إلى سورية، حيث نشأت أو ازدهرت بعد اندفاع المقاتلين الشيعة العراقيين إلى هناك اعتباراً من أواخر عام 2012.

بتوجيه من إيران، فإن الميليشيات تقاتل تنظيم الدولة بوسائل تقوّض أهداف ونفوذ الولايات المتحدة، وتعزّز الانقسامات داخل المجتمع العراقي وتلغي أي طموح بإعادة إنشاء دولة عراقية تمثّل جميع العراقيين. وهذا مؤشر على قصر النظر. إن انهيار ما تبقى من الدولة العراقية سيضمن ترسّخ عدم الاستقرار المزمن لعدة سنوات. ليس لإيران ولا للولايات المتحدة مصلحة بعيدة المدى في حدوث مثل ذلك السيناريو، إلاّ أن لا هذه ولا تلك تتصرف وكأنها تدرك إلى أي حد بات ذلك قريب التحقق. من أجل تحقيق نصر حقيقي على تنظيم الدولة، ينبغي أن يحصل العبادي على الدعم السياسي والتحفيز من الولايات المتحدة وإيران على حد سواء بشكل يسمح له بفرض سلطة الدولة في المناطق المحررة من قبضة تنظيم الدولة. وهذا يتضمن تقديم الدعم لما يلي:

  • في المناطق التي يتم تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة، ينبغي أن يتواصل العبادي سياسياً مع القيادات العربية السنية المحلية بمجملها، وأن يرفض أي إقصاء عشوائي يستند إلى مزاعم الارتباط بتنظيم الدولة.
     
  • بالمقابل، يمكن للعبادي أن ينجح فقط إذا تعاملت هذه القيادات مع حكومة بغداد بوصفها مُحاورها الرئيسي، بدلاً من تشكيل تحالفات متصارعة لتحقيق مصالحها الشخصية مع الميليشيات ـ الشيعية أو الكردية ـ التي تدّعي بأنها حررتها. إن حكماً محلياً يستند إلى المنافسة داخل القبائل أو بينها، وقائم على الانتقام، سيشكّل وصفة لعدم الاستقرار الدائم.وصفة سيشكّل الانتقام، على وقائم بينها، أو القبائل داخل المنافسة إلى يستندمحلياً
     
  • تتمتع السلطات المحلية المنتخبة، بالتنسيق مع وزارة الداخلية، بالسلطة القانونية لتعيين قادة الشرطة في المناطق المحرَّرة. على العبادي أن يسعى لمراقبة هذه التعيينات، حيث إنه في أعقاب هزيمة تنظيم الدولة، فإن السلطات المحلية ستقع تحت نفوذ الميليشيات، كما أن وزارة الداخلية نفسها واقعة تحت سيطرة فيلق بدر، وهو أحد هذه الميليشيات.
     
  • كما أن من المهم أن يوجّه العبادي المساعدات الإنسانية إلى تكريت والمناطق الأخرى المحرَّرة من سيطرة تنظيم الدولة وأن يعيد تأسيس الخدمات الأساسية (وبشكل عاجل الكهرباء والمياه) والبنية التحتية (بناء المجلس المحلي وغيره من المكاتب الإدارية). كما ينبغي على العبادي السعي للحصول على دعم آية الله العظمى علي السيستاني، الزعيم الأول للعالم الشيعي، من أجل تعبئة العناصر ـ خصوصاً داخل المشهد السياسي الشيعي ـ التي تتمتع بمنظور أكثر وطنية وتفضّل سيادة العراق وسلامة أراضيه رغم شراكتها مع إيران.
     
  • إذا نجحت الدولة في إعادة فرض سيطرتها في المناطق العربية السنية، فإن من شأن ذلك أن يوفر محفزاً لعملية سياسية محلية تستند إلى انتخابات حرة ونزيهة، من المقرر إجراؤها عام 2017، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى نشوء قيادة محلية شرعية خاضعة للمساءلة.
     
  • وأخيراً، على إيران أن تكبح جماح الميليشيات وأن تعمل على تعزيز مؤسسات الدولة لمصلحة استعادة استقرار العراق والمحافظة على وحدة أراضيه. قبل عقد من الزمن، فكّكت الولايات المتحدة الدولة العراقية وقوّضت نسيجها الاجتماعي وخسرت قدراً كبيراً من الموارد والمصداقية في محاولاتها لإعادة بنائها على صورتها. ينبغي على إيران أن تتعلم من هذه التجربة. إذا لم يتم تنفيذ هذه المقاربات، يمكن لدولة عراقية جوفاء أن تستعيد الأراضي التي سقطت تحت هيمنة تنظيم الدولة قبل تسعة أشهر لكنها قد تخسرها مرة أخرى ـ هذه المرة للميليشيات.

بيروت / بروكسل

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.