تحديات مصر في المرحلة الانتقالية الثانية
تحديات مصر في المرحلة الانتقالية الثانية
Op-Ed / Middle East & North Africa 4 minutes

تحديات مصر في المرحلة الانتقالية الثانية

يمثل فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي في انتخابات رئاسة جمهورية مصر نقطة تحول تاريخية، إلا أن صعوده لكرسي الرئيس لن يكون كافيا لعلاج الأزمة السياسية المركبة التي تعاني منها القاهرة. إذ يعاني النظام السياسي في مصر بشكل عام من الشلل، كما تفتقر البلاد لمؤسسات تتمتع بالشرعية الكافية لكسر حالة التربص من قبل هيئات وسلطات الدولة لبعضها البعض. كما فقد معظم اللاعبين السياسيين (ومن ضمنهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإخوان المسلمون) قدرا ليس بالضئيل من مصداقيتهم وشعبيتهم، بينما تزداد حدة الاستقطاب في المجتمع المصري يوما بعد يوم. وعليه فإن إرساء أسس متينة لفترة ما بعد المرحلة الانتقالية يتطلب من الفاعلين السياسيين القيام بما كان ينبغي القيام به قبل 18 شهرا، وهو التوصل إلى اتفاق حول حزمة مبادئ تضمن احترام المصالح الحيوية لجميع الأطراف بما يفضي إلى انتقال ديمقراطي سلمي

ما كان للأوضاع أن تأخذ هذا المنحى من التدهور لولا سوء إدارة العملية «الانتقالية». تلك الإدارة التي اتسمت بافتقار بوصلة واضحة لتحديد الاتجاه العام والهدف النهائي، كما افتقرت إلى قواعد متفق عليها للعمل المشترك؛ إذ يبدو وكأن اللاعبين السياسيين، بما في ذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين والقوى الليبرالية والعلمانية، يبدون جميعا وكأنهم يسيرون على مسارات منفصلة، متوجسين من بعضهم الآخر، يسارعون للجوء إلى وسائل غير دستورية لتعزيز مواقفهم، كإصدار قرارات تعسفية أو تحريك الشارع الاحتجاجي

في الآونة الأخيرة، أعاد المجلس العسكري شكلا من أشكال الأحكام العرفية التي تسمح للجيش باعتقال مدنيين دون إذن قضائي، وهو ما أوقفته محكمة القضاء الإداري في السابع والعشرين من يونيو (حزيران) الحالي. كما أصدر المجلس العسكري قرارا بتشكيل «مجلس الدفاع الوطني» بأغلبية مريحة للعسكريين ليسيطر الجيش على قضايا الأمن القومي، وأصدر الإعلان الدستوري المكمل الذي وسع سلطاته التنفيذية ومنحه صلاحيات تشريعية كبيرة، وكذلك أعطاه دورا في صياغة الدستور الجديد (وهو ما يعني فعليا إلغاء ما ترتب على الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية العام الماضي). تلك الإجراءات، مقرونة بحل المحكمة الدستورية لأول برلمان منتخب ديمقراطيا، يمكن أن تعيد المرحلة الانتقالية إلى نقطة الصفر

إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، ستتصاعد احتمالية هيمنة المنافسة والتنازع بين المؤسسات الرسمية المصرية كالتنازع المحتمل بين جمعيات تأسيسية مختلفة دون وجود دستور؛ والتنازع بين الجهات التشريعية كالبرلمان الصادر قرار بحله والمجلس العسكري؛ وتنازع المفاهيم على صلاحيات المجلس العسكري (على سبيل المثال، ما إذا كان بإمكانه حل البرلمان أو رفض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية)؛ والتصورات المتضاربة حول السلطة التنفيذية؛ وتضارب المظاهرات الحاشدة التي تؤلب مصر ضد مصر أخرى، وكل ذلك في ظل غياب آلية متفق عليها أو وسيط يتمتع بالشرعية لتسوية هذه النزاعات

وللأسف الشديد، لا تقتصر هذه التصدعات على المؤسسات السياسية في البلاد، وإنما تمتد لتشرذم المجتمع المصري بأكمله، مما يؤلب ضباط الجيش ضد المدنيين، والإسلاميين ضد العلمانيين، والمسلمين ضد المسيحيين، والعكس صحيح أيضا. وما يزيد الطين بلة هو أن مصر المنهكة تواجه أزمة اقتصادية خانقة على المدى القريب؛ إذ انخفض معدل احتياطها من العملات الأجنبية بنسبة تقارب 60 في المائة، كما تواجه عجزا هائلا في الموازنة مصحوبا بارتفاع معدلات البطالة والتضخم وانخفاض متكرر لتصنيفها الائتماني. لا يمكن معالجة هذه التحديات دون الوصول إلى استقرار سياسي ناجم عن توافق في الرؤى

وبالنظر إلى سلوك الكثير من الأطراف على الساحة المصرية، فإنه من الصعب على المواطن المصري أن يثق بهم. فقد بدد المجلس العسكري شرعيته من خلال اللجوء إلى العنف أمام الاحتجاجات والظهور بمظهر المناصر لنظام مبارك وشبكاته النفعية والأمنية ضد الثوار، معتقدا أن دعم معظم المصريين له ثابت لا يتزعزع، واللجوء إلى عضلاته أحيانا لتمرير قرارات سياسية حاسمة بشكل انفرادي تحت اسم «مصالح الدولة العليا». وعليه فلا عجب أن يظن الكثيرون في مصر أنه دبر انقلابا ناعما

ومن جانبهم، يبدو أن «الإخوان» قد وضعوا كل بيضهم في سلة قوتهم الانتخابية، وجاء اعترافهم بضرورة طمأنة أطياف المجتمع المصري الأخرى متأخرة، حيث قام «الإخوان» باستعداء الجيش وأجهزة الأمن الأخرى، وتخلوا عن الحركة الثورية، وفشلوا في رأب الصدع مع الأحزاب العلمانية، وخطوا خطوات غير كافية لطمأنة الأقلية المسيحية القبطية، وهددوا مصالح أنصار النظام القديم، وتراجعوا مرارا وتكرارا عن تعهداتهم. وفي حين اتخذوا في الآونة الأخيرة بعض الخطوات لمد يدهم للآخرين في المعارضة، بما في ذلك الوعد بتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية مستقلة وتعيين نائب أو أكثر للرئيس من غير التيار الإسلامي، إلا أن تبديد مخاوف هذه الأطراف يتطلب ما هو أكثر من ذلك. وعلى الرغم من الشرعية الديمقراطية التي كسبها «الإخوان» رسميا، فإن تصرفاتهم قد حشدت جزءا كبيرا من المجتمع المصري ضدهم، وهو ما يعول عليه معارضوهم لاسترجاع مكتسباتهم

ومع ذلك لم يفت الأوان لتصحيح الأوضاع: السبيل الأفضل للمضي قدما يتمثل في جلوس الجهات السياسية الفاعلة للتفاوض على حزمة تفاهمات لتوجيه مصر خلال فترة ما بعد المرحلة الانتقالية، بما في ذلك وضع جدول زمني واضح، وتوزيع صلاحيات المرحلة الانتقالية بين الجهات المختلفة بشكل شفاف وقانوني، وصياغة الدستور والمبادئ الأساسية وضمان المصالح الحيوية لكافة الأطراف في إطار الاتفاق النهائي

ويمكن للتفاهم أن يستند إلى المبادئ التالية

أولا، يتعين على الرئيس المنتخب مرسي تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية مستقلة تتمتع بالمصداقية، واختيار نائب أو نائبين له يعكسان التنوع في مصر

ثانيا، يجب الامتناع عن السعي إلى حل الجمعية التأسيسية القائمة وتعيين أخرى. وفي المقابل، تقبل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين بتشكيل هيئة أكثر تمثيلا عبر استبدال بعض الإسلاميين بالمستقلين والخبراء القانونيين

ثالثا، يجب على جميع الأطراف أن تتفق على إعادة فتح الترشح لثلث المقاعد النيابية المنتخبة على طريقة النظام الفردي والتي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون المنظم لها

رابعا، يتعين على المجلس العسكري عدم عرقلة إلغاء القانون الذي صدر مؤخرا عن وزارة العدل والذي يمكن الجيش من اعتقال المدنيين واحتجازهم دون أمر قضائي

خامسا، يتعين على المجلس العسكري أن يأخذ زمام المبادرة في إلغاء الإعلان الدستوري المكمل الذي يقوض عملية نقل السلطة التشريعية والتنفيذية للمدنيين بالكامل، أو على الأقل عرضه لاستفتاء شعبي

سادسا، يتعين على المجلس العسكري التعهد بالانسحاب الكامل من الساحة السياسية فور إتمام كتابة الدستور والتصديق عليه من خلال استفتاء شعبي في الأشهر القليلة المقبلة

وأخيرا، ينبغي على جماعة الإخوان المسلمين أن تقوم بتقنين وضعها القانوني لضمان شفافية عملياتها ومواردها المالية

أما المجتمع الدولي فيمكنه أن يقدم المساعدة لمصر للتغلب على محنتها. وأقل ما يمكن أن يفعله هو التزامه في الوقوف إلى جانب الاقتصاد المصري حتى يتعافى فور وضوح الطريق الذي ستسلكه مصر باتجاه انتقال ديمقراطي حقيقي. ويمكن للمساعدات أن تشمل قروض صندوق النقد الدولي الميسرة، والمنح المالية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي الوقت ذاته، يتعين على الفاعلين الخارجين إدانة أي محاولة لتقويض المؤسسات المدنية المنتخبة ديمقراطيا، أو أي محاولة، وإن كان ذلك غير مرجح، لإنشاء نظام حكم ديني في مصر

وعلى الرغم من أن فوز مرسي قوبل بخيبة أمل في أوساط الكثيرين من المصريين، فإن مساندة أغلبية الشعب له تنم عن رغبة ملحة للتغيير في مصر. لا يزال الواقع هشا للغاية وقد ينكسر مع أي زلة. ويمكن لحجم الصعوبات الاقتصادية، مقرونا بالاستقطاب الآيديولوجي الحاد، تبديد الكثير من المكاسب الديمقراطية. لذا ولكي تنعم مصر بالاستقرار السياسي فهي بحاجة إلى سلوك نهج أكثر هدوءا تسود فيه الحكمة والتعاون من جميع الأطراف واحترام الإرادة الشعبية

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.