Op-Ed / Middle East & North Africa 4 minutes

مصر: عودة الثورة

يعتبر القمع الوحشي الذي مورس ضد المتظاهرين الذين اندفعوا إلى ساحة التحرير مرة أخرى وأطلقوا الاحتجاجات في سائر أنحاء مصر مأساوياً، إلا أنه يوفر أيضاً فرصة نادرة لإعادة وضع العملية الانتقالية على المسار الصحيح تماماً في الوقت الذي أظهرت فيه جميع المؤشرات بأنها خرجت عن مسارها 


رسالة المتظاهرين واضحة وهي أن السلطة ينبغي أن تنتقل فوراً من الجيش إلى سلطة مدنية ذات مصداقية وصلاحيات قوية. المجلس الأعلى للقوات المسلحة، واستناداً إلى قناعته بأنه يحظى بدعم أغلبية الشعب، نزع إلى الاستجابة إلى الضغوط على نحو تدريجي، حيث يتراجع، ثم يقاوم، ثم يتراجع من جديد. إلاّ أن المسار الأكثر حكمة الذي ينبغي أن تتخذه السلطات يتمثل في السماح للأحزاب السياسية بمراجعة العملية الانتقالية بشكل جذري. ينبغي أن يتوقف استعمال العنف ضد المتظاهرين؛ كما ينبغي وضع الأجهزة الأمنية تحت سيطرة مدنية واضحة، وأن يتم تقديم المسؤولين عن الانتهاكات إلى المحاكمة. أي شيء أقل من ذلك مثل الإبطاء في العملية بغية تهدئة الأمور أو تأجيل القرارات الحاسمة إلى وقت لاحق من شأنه أن يفرض على الجيش معارضة قوية في المستقبل القريب، في وقت قد يكون فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة أضعف من أن يتمكن من معالجة الوضع


بدأ الفصل الأخير من الأزمة المستمرة في مصر في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، عندما اقتحمت قوات الأمن المركزي، بالتعاون مع الشرطة العسكرية، ميدان التحرير في محاولة لإخلائه بالقوة وإلغاء اعتصام لعشرات الأشخاص، معظمهم كانوا قد أصيبوا في ثورة 25 كانون الثاني/يناير. إن الانفجار الذي حدث في أعقاب ذلك يعكس أكثر من الغضب على رد الأجهزة الأمنية غير المتناسب. وهو أيضاً نتاج للإحباطات المتراكمة وانعدام الثقة الذي بات يصوغ تصورات جميع اللاعبين السياسيين فعلياً، وهو ما تجاهله الجيش مدفوعاً بثقته بالدعم الذي يحظى به لدى المصريين العاديين.
لدى المحتجين ما يبرر قلقهم من المسار الذي اختاره المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد. وأفعال المجلس منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في شباط/فبراير، والتي تمثلت في رفضه تقديم جدول زمني شفاف لنقل السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة؛ وتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أواسط عام 2013؛ والاضطلاع بشكل أحادي بسلطات تشريعية وتنفيذية كاسحة؛ والتغاضي عن اللجوء المستمر إلى التعذيب وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان، تشير إلى عدم الكفاءة وعدم القدرة على اتخاذ القرار، وفي أسوأ الأحوال محاولة للتمسك بالسلطة إلى ما لا نهاية


علاوة على ذلك، ومنذ استلام المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة، حوكم أكثر عشرة آلاف مدني أمام محاكم عسكرية، كثيرون منهم بتهم ذات دوافع سياسية، ونتج عن عمليات القمع العنيفة للمحتجين خصوصاً للمظاهرة القبطية في ماسبيرو في 9 تشرين الأول/أكتوبر مقتل عشرات المدنيين وجرح المئات. خلال تلك الفترة، تأرجحت القيادة العسكرية بين استرضاء الإسلاميين واللعب على مخاوف العلمانيين؛ وفي نفس الوقت كانت عازمة على المحافظة على الدور السياسي للجيش وامتيازاته الاقتصادية، بل توسيع هذا الدور والحصول على المزيد من الصلاحيات.
على وجه الإجمال، فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يفعل الكثير مما يبعث على الثقة خلال رعايته للفترة الانتقالية، في حين فعل الكثير لزرع المخاوف من أنه عازم على عدم تسليم السلطة الحقيقية إلى سلطة مدنية ديمقراطية حقيقية


لا شك في أن العديد من المصريين لا زالوا يكنون للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الكثير من الاحترام، وكثيرون يحمّلون مسؤولية المصاعب الاقتصادية واستمرار الفوضى للمحتجين، مع نفاد صبرهم من حركة الاحتجاجات. لقد راهن المجلس على هذه المشاعر، لكن يبدو أن رهانه كان قصير النظر. في الوقت الحالي، بات من الواضح أنه وبصرف النظر عما تعتقده ما تسمى بالأغلبية الصامتة، فإنها لا تستطيع أن تحمي المجلس من جمهور مصمم وحيوي يضع مصير الثورة فوق كل اعتبار. هذه المجموعات النشطة سياسياً لا زالت تحتفظ بقدرة كبيرة على تعبئة مئات الآلاف في الشوارع وشل حركة القاهرة


يكمن مفتاح حل الأزمة الحالية وتقليص إحتمالات تكرار الثورة في نقل السلطة بسرعة من الجيش إلى سلطات مدنية ذات مصداقية، أي حكومة انتقالية تكون مقبولة للأحزاب السياسية وللحركة االثورية والتي ينبغي أن تضطلع بالسلطات التنفيذية والتشريعية التي يمارسها الآن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأن تفرض سيطرة حقيقية على الأجهزة الأمنية. ينبغي أن تتمتع الحكومة الجديدة بالقدرة على مراجعة الجدول الزمني والمسار العام للعملية الانتقالية. وينبغي تحويل هذه السلطات من خلال إعلانٍ دستوري يصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
بالمقابل، فإن هذه الحكومة المؤقتة يجب أن تنسحب لتـــفسح المجال أمام حكومة يتم تشكيلها نتيـــجة لانتخابات برلمانية والتي يُعــــتزم إجـــراء الجولة الأولى منها في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، ويتوقع الإعلان عن نتائجها في أواخر آذار/مارس


ثمة حجج مشروعة تبرر عدم إجراء الانتخابات في هذا الوقت المبكر بالنظر إلى استمرار العنف وعدم الاستقرار. إلاّ أن التأجيل على الأقل دون إجماع الأحزاب السياسية من شأنه أن يكون أكثر كلفة. سيعزز ذلك من المخاوف حول نوايا المجلس العسكري في تسليم الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة، ويؤدي إلى مزيد من الانقسامات في صفوف المعارضة، واستعداء الإخوان المسلمين الذين يتمتعون بقوة الحشد الجماهيري، والذين سيرون في هذا محاولة لحرمانهم مما يتوقع أن يكون نتائج قوية لصالحهم. أما بالنسبة للانتخابات الرئاسية، فينبغي تقديمها وإجراؤها في أقرب وقت ممكن


لقد بعث المجلس العسكري ببعض الإشارات المشجعة؛ فبعد بعض التردد، أشار إلى وجوب التعامل مع الأزمة الحالية سياسياً وبشكل تشاوري مع القوى الحزبية، بدلاً من تصعيد المواجهات، والتلكؤ، وإلقاء اللوم حصرياً على المحرضين الأجانب أو تقديم تنازلات رمزية. في مباحثاته مع بعض الأحزاب السياسية، وافق المجلس على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها المحدد، وإجراء الانتخـــــابات الرئاسية قبل الثلاثين من حزيران/يونيو، وصرف الحكومة الحالية وتعيين حكومة 'إنقاذ وطني'. على المجــلس فعل المزيد


لا يكفي أن يفي المجلس بهذه الالتزامات بل عليه أيضاً أن يتحرك بسرعة ويوافق على أن تتمتع الحكومة الجديدة بالصلاحيات المذكورة أعلاه وأن يرأسها شخصية تتمتنع بإجماع وطني وثوري


كما أن ثمة تدابير أخرى جوهرية لاستعادة الثقة. ويمكن البدء بوضع حدٍ للعنف، وكبح جماح قوات الأمن، وجعل هذه القوات خاضعة للمساءلة والسماح بالاحتجاجات السلمية. حين كتابة هذا التحذير، لم تكن هجمات قوات الأمن ضد المحتجين قد توقفت، حتى بعد أن اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع الأحزاب السياسية وحتى بعد إصدار رئيس الوزراء عصام شرف أمراً لتلك القوات بوقف الهجوم. من ناحية أخرى فإن المجموعات السياسية تتحمل مسؤولية السعي لتحقيق أوسع إجماع ممكن حول رؤية سياسية لنقل السلطة للحكم المدني وكذلك بالنسبة للتفويض الذي ستتمتع به الحكومة الجديدة


إذا كان ثمة درس يمكن تعلّمه من ردود الفعل الانتقائية وغير المخططة التي أبداها المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الاحتجاجات خلال الأشهر القليلة الماضية، فهو أن الاستجابة الجزئية للسخط الشعبي ليست الحل المطلوب. فهذه الاستجابة نادراً ما تُرضي المتظاهرين، كما أنها تشجع المعارضة على التصعيد، إضافة إلى أنها تكون في معظم الأحيان الخطوة الأولى قبل تقديم تنازلات أكثر شمولية لا يُشكُر المجلس على تقديمها بل يُحمَّل مسؤولية التلكؤ والتباطؤ إلى أن تُفرض عليه


لا شك أن العملية الانتقالية في مصر ستكون وعرة، بالنظر إلى إرث عقود من الحكم السلطوي، ومقاومة عناصر النظام القديم، ومخاوف الجيش من خسارة امتيازاته ورعب الأحزاب السياسية من تمسك الجيش بهذه الامتيازات وتشرذمها فيما بينها، إضافة إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي تواجهها البلاد. إلا أن اتخاذ الخطوة الصحيحة في هذا المفصل الحرج من شأنه أن يضع العملية الانتقالية على مسارٍ أكثر استقراراً وثقة ومشروعية

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.