الأمن والقضاء في ليبيا: دوران في حلقة مفرغة
الأمن والقضاء في ليبيا: دوران في حلقة مفرغة
Op-Ed / Middle East & North Africa 4 minutes

الأمن والقضاء في ليبيا: دوران في حلقة مفرغة

جاء التفجير الذي استهدف السفارة الفرنسية في طرابلس ليذكر مجددا بالتحديات الأمنية الجمة التي لا تزال ليبيا تواجهها، وينبغي أن يشكل جرس إنذار للسلطات كي تقوم بملء الفراغ الأمني بشكل عاجل. كثيرة هي العلاجات الضرورية لوضع حد لانعدام الأمن المستشري في ليبيا، إلاّ أن أكثرها إلحاحا هو إصلاح النظام القضائي. ما لم تتمكن ليبيا من كسر دائرة العنف وإصلاح نظامها القضائي على نحو عاجل، فإن وتيرة الاغتيالات وأعمال العنف والصراعات القبائلية سترتفع

تقوم بعض الجماعات المسلحة المتشككة حيال قدرة الدولة على تحقيق العدالة، تقوم وبشكل اعتباطي باحتجاز وتعذيب أو اغتيال أشخاص تفترض أنهم موالون للقذافي فيما تستغل جماعات أخرى الفوضى وتمارس العنف لتحقيق أهداف سياسية أو إجرامية. كل هذا يولّد مظالم جديدة ويسهم في تقويض الثقة بالدولة. إن كسر هذه الحلقة المفرغة يتطلب إجراءات على جبهات متعددة

لقد مضى أكثر من عام على الإطاحة بنظام القذافي وحتى الآن ليس هناك نظام محاكم يعمل بشكل معقول في الكثير من أنحاء البلاد، في حين أن الجماعات المسلحة تستمر في إدارة السجون وتطبيق صيغها الخاصة من العدالة. إن العيوب والنواقص الحادة التي تعتري النظام القضائي الحالي لها جذور عميقة، فهي قبل كل شيء نواقص وعيوب النظام التي أتت من حيث المبدأ لتحل محله. في ظل حكم القذافي، كان النظام القضائي يعاني من تسييس التعيينات، واستشراء الفساد واستعمال الوسائل غير القانونية لاستهداف الخصوم السياسيين. وتشكل أربعة عقود من ممارسة العدالة الاعتباطية إرثا حافلا بالأعباء للحكومة الجديدة التي تواجَه بالخيار بين الفصل الجماعي للمسؤولين القضائيين الذين عملوا في ظل حكم القذافي أو غربلتهم والتحقق من خلفياتهم وأدائهم واحدا بعد الآخر، وقد اختارت السلطات الجديدة حتى الآن الخيار الأخير. ورغم سلامة قرارها، فإنه أسهم في زيادة شكوك الليبيين إزاء نطاق التغيير المنشود

وما زاد من تعقيد الوضع هو انتشار وتكاثر الجماعات المسلّحة. ونظرا لتشكك كتائب الثوار إزاء النظام القضائي الموروث من حقبة القذافي وبالشرطة، وشعورها بالإحباط من الإيقاع البطيء للمحاكمات ضد المسؤولين السابقين ومن حالة التخبط التي تسود في الجهاز الأمني، ولشعورها بالجرأة بسبب النفوذ الذي اكتسبته، فقد بدأت تعمل فوق القانون وتعيق عمل المحققين والقضاة، بل وتضطلع بدور الشرطة والمدعين العامين والقضاة والسجانين في نفس الوقت. تنشئ الكتائب المسلحة وحدات تحقيق واعتقال وتضع قوائم بالأشخاص المطلوبين وتقيم نقاط التفتيش أو تقتحم بيوت الناس لاعتقال خارجين مفتَرضين عن القانون أو أشخاص يُشَك بأنهم يساعدون النظام القديم. وفي بعض الأحيان تدير مراكز اعتقال خاصة بها في مقراتها، وفي مزارع معزولة أو في مبان حكومية سابقة استولت عليها. هناك آلاف الأشخاص بين أيدي هذه الكتائب، خارج الإطار القانوني الرسمي ومن دون الاستعانة بمراجعة قضائية أو اتباع الإجراءات القضائية اللازمة. وقد ألقت الاغتيالات والهجمات المتصاعدة على قوات الأمن الحكومية ظلالا قاتمة على هذه الصورة

كل ما سبق ذكره يعتبر من العلامات المميزة للحلقة المفرغة؛ إذ إن نفاد صبر هذه المجموعات من بطء العملية القضائية وشعورها بالتشكك حيالها يشجعها ويزيدها من جرأتها. وفي نفس الوقت فإن زيادة نشاطها تقوض قدرة الدولة على العمل، بما في ذلك في مسائل القانون وفرض النظام، وهذا بدوره يضفي مصداقية على مزاعم الجماعات المسلحة بأن من واجبها ملء الفراغ

ثمة رؤيتان متعارضتان بشأن هذا الوضع سواء فيما يتعلق بمصدر المشكلة أو بطبيعة علاجها. ففيما يعتبر البعض ومن بينهم حكومة رئيس الوزراء علي زيدان الجماعات المسلحة سببا رئيسا في ارتفاع حدة العنف ويدعون إلى تفكيكها أو استيعابها في جهاز الأمن الرسمي ونقل المحتجزين لديها إلى سلطة الدولة، ينظر آخرون، بمن فيهم الكتائب نفسها، إلى نشاط الجماعات المسلحة بوصفه ضروريا في ضوء تعطل مؤسسات الدولة واستمرار نفوذ المسؤولين من حقبة القذافي. تتم ترجمة هاتين الروايتين المتعارضتين إلى مقاربات مختلفة حيال الجهاز القضائي بين مقاربة الحكومة الحذرة حيال استئصال المسؤولين السابقين على أساس كل حالة على حدة ودعوة الكتائب إلى طرد جميع الموالين وبالجملة. وتحظى هذه المقاربة الأخيرة بتأييد الكثير من الليبيين الذين يشعرون بالإحباط بسبب ضآلة التغيير الذي طرأ

يمكن للسياسات الحكومية المتناقضة حيال الجماعات المسلحة أن تفسر إلى حد ما ظهور مثل هذا الاستقطاب في الآراء، إذ تعهّد المجلس الوطني الانتقالي ببناء نظام قضائي جديد قائم على سيادة القانون ولكنه شجع في نفس الوقت تعزيز قوة الكتائب ومنح الكثير من الجماعات المسلحة التي كانت تضطلع بدور الشرطة اعترافا رسميا، كما وفر لهم الحصانة من الجرائم التي يمكن المجادلة بأنها ارتكبت دفاعا عن الثورة. أما خليفة المجلس الانتقالي، أي المؤتمر الوطني العام، فقد حذا حذو المجلس إلى حد ما حيث أقر بالجهود التي تبذلها الجماعات المسلحة المرتبطة بالحكومة لاعتقال الأشخاص المشكوك فيهم دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة

بالنظر إلى هذا الواقع، يتعين الإشادة بحكومة زيدان التي عُيّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 لمحاولاتها وقف هذا المد. أعلن هو ووزير العدل في حكومته أنه لن يكون هناك أي تسامح مع حالات الحجز التعسفي أو الاغتيالات الانتقامية وجعلا من نقل الأشخاص المحتجزين عشوائيا إلى سلطة الدولة أولوية لهما. أفرغت قوات أمن الدولة عدة مراكز اعتقال غير قانونية في العاصمة وأصدرت الهيئة التشريعية قانونا يجرّم التعذيب والاختطاف

إلا أن هذا لا يزال عملا قيد الإنجاز، كما أن ميزان القوى لا يميل بشكل حاسم لصالح الحكومة. إذا لم تتم معالجة هذه القضية بعناية، وخصوصا إذا لم تعالج المظالم المشروعة فيما يتعلق ببطء محاكمة الجرائم المرتكبة في عهد القذافي، فإن مواجهة الكتائب يمكن أن تحدث أثرا عكسيا. ثمة أدلة بدأت تظهر على ذلك، فقد تعرضت وزارة العدل ومكتب رئيس الوزراء للهجمات، وتُهدد الجماعات المسلحة بالاستيلاء على السجون الواقعة حاليا تحت سيطرة الحكومة

إن القيام بهذه العملية بشكل صحيح يتطلب القيام بعدة مهام سياسية متزامنة. ينبغي على الحكومة أن تظهر بشكل واضح أنها تعالج مواطن الخلل والقصور الموروثة من الماضي من أجل استعادة الثقة في النظام القضائي وقوات الأمن. وتعتبر المتابعات القضائية الجنائية ضد المسؤولين رفيعي المستوى من حقبة القذافي خطوة هامة، إلا أنها لن تكون كافية. ما ينبغي القيام به هو عملية شاملة للعدالة الانتقالية تتضمن، إضافة إلى المحاكمات الجنائية، آليات دراسة وتدقيق سليمة للموالين السابقين للقذافي وتشكيل لجان مصالحة. وفي نفس الوقت، ينبغي أن تخضع الجماعات المسلحة، حتى تلك التي يعتبر أعضاؤها من «أبطال الثورة»، للمساءلة عن أعمالهم أيضا. تحقيق العدالة لضحايا جرائم الأمس ينبغي أن يسير يدا بيد مع تحقيق العدالة لضحايا جرائم اليوم

 

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.