تحديات ليبيا الأمنية ما بعد القذافي
تحديات ليبيا الأمنية ما بعد القذافي
Op-Ed / Middle East & North Africa 5 minutes

تحديات ليبيا الأمنية ما بعد القذافي

كما توضح الموجة الدراماتيكية الأخيرة من أحداث العنف فإن الميليشيات التي لعبت دوراً حاسماً في الإطاحة بنظام القذافي باتت تشكل اليوم مشكلة كبيرة بعد سقوط النظام. يكتنف هذه الميليشيات وأعدادها الغموض؛ حيث يقدرها البعض بمئة مجموعة، في حين يقدرها آخرون بثلاثة أضعاف هذا الرقم. يُذكر بأن أكثر من 125,000 ليبي يحملون السلاح الآن. وقد اصطدمت هذه المجموعات ببعضها على نحو متكرر. يتطلب إعادة بناء ليبيا التطرق لمصير هذه الميليشيات، ولكن التسرع في القيام بذلك يحمل نفس مخاطر تجاهل هذه الميليشيات. لقد تميزت الانتفاضة بدرجة كبيرة من اللامركزية. ورغم أن المجالس العسكرية والمدنية المحلية تعترف بالمجلس الوطني الانتقالي إلا أنها تتعامل معه بريبة. كما يشعر أعضاء هذه المجالس أنهم بحاجة للسلاح للدفاع عن مصالحهم ومعالجة مخاوفهم الأمنية.

 إن اتباع مقاربة من القمة إلى القاعدة في تفكيك هذه الميليشيات ونزع سلاحها من قبل مجلس تنفيذي يفتقر إلى الشرعية يمكن أن يحدث نتيجة عكسية. في الوقت الراهن، على المجلس الوطني الانتقالي أن يعمل مع السلطات المحلية والميليشيات للاتفاق على معايير عملياتية وتمهيد الطريق لإعادة هيكلة الشرطة، والجيش والمؤسسات المدنية.

ثمة إرث مزدوج يُثقل كاهل السلطات الليبية الجديدة. الإرث الأول أورثها إياه القذافي على شكل نظام يرتكز على شخصه وعلى عائلته، فشل في تطوير مؤسسات وطنية حقيقية؛ وتعمد إبقاء الجيش الوطني ضعيفاً لمنع ظهور منافسين محتملين يمكن أن يتحدوا سلطته. أما الإرث الثاني فقد نشأ من الطريقة التي تمت بها الإطاحة بالقذافي، والتي تمثلت بالتحرير التدريجي والمتقطع لأجزاء مختلفة من البلاد. لقد تطوع عدد كبير من القوات والميليشيات المحلية للمشاركة في هذه المعركة. وبعد سقوط القذافي، بات بوسع الجميع الادعاء بأنهم حرروا الوطن.

كان المجلس الوطني الانتقالي بالنسبة لمعظم المجتمع الدولي وجه الانتفاضة. لقد تشكل في وقت مبكر، وتحدث بقدر كبير من السلطة وحقق بسرعة اعترافاً دولياً واسعاً. أما على الأرض فقد كانت الصورة مختلفة. اتخذ المجلس الوطني الانتقالي من مدينة بنغازي الشرقية مقراً له، وهي المدينة التي تشكل قاعدة تقليدية للأنشطة المناهضة للنظام والتي وفرت للمنشقين عن الجيش منطقة آمنة نسبياً لشن عملياتهم، خصوصاً بعد انخراط حلف شمال الأطلسي. كان بوسع هؤلاء تشجيع المدن والبلدات الغربية على الانتفاض فقط، لكن لم يكن بوسعهم تقديم الدعم لها. وفي بعض الأوقات الحرجة، فإن بعض مكونات الجيش التي انشقت علقت على الحدود الشرقية واكتفت إلى حدٍ كبير بالمراقبة السلبية لما كان يحدث في باقي أنحاء البلاد. في عيون الكثيرين، بدا جيش الثوار على نحو متزايد على أنه قوة شرقية وليس قوة وطنية فعلاً. أما بالنسبة للمجلس الوطني الانتقالي، الذي ركز جهوده على الحصول على الدعم الدولي الحيوي، فإنه لم يقد الانتفاضة بشكل كامل، كما لم يتمكن من تأسيس وجود فعلي هام في الأجزاء الأخرى من البلاد.

في الغرب، شكل الثوار ميليشيات وألوية عسكرية مستقلة بدرجة كبيرة، وكانت ذاتية التسليح والتمويل، واستفادت في معظم الأحيان من الدعم المحدود للمجلس الوطني الانتقالي والحكومات الأجنبية. و في حين قدم بعض هؤلاء من خلفيات عسكرية، إلا أن معظمهم كانوا من المدنيين الذين اضطلعوا بمسؤوليات أمنية ومدنية تحت سلطة المجالس العسكرية المحلية في المناطق التي سيطروا عليها. ونتيجة لذلك، فإن معظم الميليشيات متجذرة في بعض المناطق الجغرافية كالزنتان ومصراتة، ولا توحدها أيديولوجيا مشتركة، أو انتماء قبلي أو عرقي، ونادراً ما تمتلك أجندة سياسية واضحة تتجاوز المحافظة على أمن المناطق التي يتواجدون فيها.

كان الوضع في طرابلس مختلفاً وخطيراً على نحو فريد. إذ عكس الانتصار على قوات القذافي هناك الجهود المتظافرة للسكان المحليين والميليشيات المختلفة التي قدمت من سائر أنحاء البلاد. وكانت الحصيلة سلسلة من التراتبيات المتوازية، وغير المنسقة في بعض الأحيان للقيادة. وقد أدى وجود عدد كبير من الميليشيات إلى صراعات مسلحة مع نشوء تقاطعات وتنافس على السلطة في ما بينها. 

إن رغبة المجلس الوطني الانتقالي بوضع الميليشيات تحت سيطرة مركزية أمر مفهوم تماماً. إلا أن ثمة عقبات هائلة تحول دون ذلك. لقد بات لهؤلاء مصالح خاصة لن يتخلوا عنها بسهولة. كما أنهم رسخوا وجودهم وقوتهم بشكل متزايد. تقلد الميليشيات تنظيم الجيش النظامي وتستعمل تسلسلاً مشابهاً في القيادة؛ وهم يتبعون إجراءات منفصلة في تسجيل الأسلحة والعربات؛ وإصدار بطاقات الهوية؛ وإجراء التحقيقات؛ وإصدار أوامر الاعتقال؛ واعتقال وسجن المشبوهين؛ والقيام بالعمليات الأمنية، التي ترتب أحياناً كلفة مرتفعة على المجتمعات المحلية التي تتعرض للتمييز والعقاب الجماعي.

كما أن هذه الميليشيات تتمتع بمزايا يفتقر إليها المجلس الوطني الانتقالي وكذلك الجيش الوطني، خصوصاً من حيث المعرفة والعلاقات المحلية المتفوقة، كما أنها تتمتع بقيادات قوية نسبياً وبالشرعية الثورية. على النقيض من ذلك، فقد ترتب على المجلس الوطني الانتقالي الصراع مع انقساماته الداخلية، والافتقار إلى المصداقية كما أثيرت التساؤلات حول فعاليته. كما كان عليه  التعامل مع وزارات لا زالت تمر بمرحلة إعادة التنظيم.

إلا أن جوهر المسألة سياسي. يعكس تشظي المشهد الأمني انعدام الثقة وانعدام اليقين حول من يمتلك الشرعية للقيادة خلال المرحلة الانتقالية. ففي حين يمكن للمجلس الوطني الانتقالي والجيش الوطني الذي أعيد تشكيله القول بأنهم كانوا من أوائل الذين ثاروا أو انشقوا وأنهم لعبوا دوراً حاسماً في الحصول على الدعم الدولي، يعتبرهم آخرين خاضعين للسيطرة الشرقية أكثر مما ينبغي ويتهمونهم بأنهم لعبوا دوراً هامشياً في تحرير المناطق الغربية. أما المدنيون الذين حملوا السلاح، والذين لا حول لهم ولا قوة، والذين تعرضوا للاضطهاد في ظل حكم القذافي يسوؤهم أن يروا مسؤولين كبار سابقين يدعون بحقهم في القيادة بعد أن غيروا ولاءهم. ورغم أن الإسلاميين ممثلون في المجلس، إلا أن العديد منهم يعتبرون المجلس الوطني الانتقالي علمانياً لا يمت لليبيين العاديين بصلة. وفوق كل ذلك، فإن للميليشيات خصوصاً تلك الموجودة في طرابلس، والزنتان ومصراتة، لديها روايتها الخاصة لتبرير شرعيتها ومفادها بأنها هي التي قادت الثورة في الغرب، وأن إسهامها كان الأكبر في تحرير العاصمة أو أنها عانت أكثر من الآخرين من قمع القذافي.

المشكلة التي تثيرها الميليشيات مرتبطة على نحو وثيق بقضايا بنيوية أعمق وأبعد مدى تتمثل في إهمال القذافي للجيش والمؤسسات الأخرى؛ والاحتكاكات بين المناطق والانقسامات المجتمعية (بين المناطق، وبين المعسكرين الإسلامي والعلماني، وكذلك بين ممثلي النظامين القديم والجديد)؛ والتطور غير المتسق وغير المنسق جغرافياً للانتفاضة؛ وفائض الأسلحة وغياب الثقة؛ والافتقار إلى سلطة تنفيذية قوية وفعّالة وتمثيلية بشكل كامل؛ والمشاعر السائدة بأن الجيش الوطني الموجود حالياً يفتقر إلى القدرة والشرعية.

وإلى أن يتم تشكيل هيئة حاكمة شرعية – وهو ما يعني إلى أن يتم إجراء انتخابات – وإلى أن يتم تطوير مؤسسات وطنية ذات مصداقية، خصوصاً في مجالات الدفاع، والشرطة وتقديم الخدمات الحيوية، فمن المرجح أن يظل الليبيون متشككين من العملية السياسية، وأن يظلوا مصرين على الاحتفاظ بأسلحتهم والمحافظة على الهيكلية الراهنة للألوية المسلحة وغير النظامية. إن محاولة فرض حصيلة مختلفة هي بمثابة اللعب بالنار، وثمة احتمال ضئيل بنجاحها.

إلا أن ذلك لا يعني عدم إمكانية فعل شيء. ينبغي أن يتم التصدي لبعض أكثر الملامح الأمنية إثارة للقلق بالتعاون بين المجلس الوطني الانتقالي والمجالس المحلية العسكرية والمدنية. وينبغي أن تُمنح الأولوية لتطوير وفرض معايير واضحة لمنع الانتهاكات بحق الأشخاص المحتجزين أو التمييز ضد جماعات بأكملها، وحيازة واستعراض واستعمال الأسلحة الثقيلة بشكل غير منضبط والصدامات بين الميليشيات. كما ينبغي أن يشرع المجلس الوطني الانتقالي بالعمل على خطوات بعيدة المدى لتفكيك الميليشيات وإعادة إدماج مقاتليها بالتنسيق مع اللاعبين المحليين. وسيتطلب هذا إعادة هيكلة الشرطة والجيش، وأيضاً توفير الفرص الاقتصادية للمقاتلين السابقين، مما سيتطلب بدوره تلبية الحد الأدنى من التوقعات فيما يتعلق بالحكم الرشيد.

وفي المحصلة، فإن التعامل الناجح مع الازدياد الكبير في عدد الميليشيات سيتطلب تحقيق توازن دقيق. إذ ينبغي على السلطات المركزية أن تتخذ القرارات لكن ليس على حساب نظرائها المحليين؛ كما ينبغي التقدم في عملية تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها بعناية ودون تسرع ودون أن يتم ذلك على نحو مفاجئ؛ كما ينبغي على اللاعبين الدوليين تحقيق التوازن بين الحاجة إلى عدم التدخل بشكل سافر في الشؤون الليبية وبين الالتزام بعدم وقوف موقف المتفرج حيال مستقبلها الواعد الذي لا يزال هشاً.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.