A resident rests among debris after Tuesday's bomb attack in Baghdad's Alawi district April 7, 2010. Coordinated bombings across Baghdad destroyed seven buildings and killed at least 35 people on Tuesday, authorities said, fuelling fears of a surge in vio REUTERS / Thaier al-Sudani
Commentary / Middle East & North Africa 8 minutes

العراق بعد عشرين عاماً

كان لدى مهندسي غزو العراق عام 2003 رؤى عظمى لتغيير الشرق الأوسط بشكل يحقق المصالح الأميركية. بعد عقدين من الزمن، بات من الواضح أن المشروع فشل ليس من ذلك الجانب فحسب، بل من معظم الجوانب الأخرى أيضاً.

يوست هيلترمان

الغزو الأميركي للعراق عام 2003، الذي كان مدفوعاً من قبل مجموعة من الساسة العَقَديين المعروفين بالمحافظين الجدد. بدأ بوصفه مناورة من قبل إدارة جورج دبليو بوش لإعادة هندسة الشرق الأوسط. رغم أن ذلك كان مبرَّراً كرد على الضلوع المفترض للزعيم العراقي صدام حسين في هجمات 11 أيلول/سبتمبر  2001في الولايات المتحدة، وامتلاكه المزعوم للقدرة على صناعة أسلحة بيولوجية أو أصناف أخرى من أسلحة الدمار الشامل، فإن الأهداف التي ذُكرت كانت أوسع من ذلك. إذ سعى مهندسو الحرب إلى جعل المنطقة أكثر قرباً لتلبية المصالح الأميركية، وعزل إيران، وبإزاحة أحد أعضاء كتلة "الرفض" العربية، وفرض السلام الإسرائيلي على الفلسطينيين – الذين كانوا قد حاولوا مرة أخرى، في انتفاضة ثانية بدأت عام 2000، التخلص من الحكم العسكري الإسرائيلي. وكان ثمة دوافع أخرى واضحة لذلك العمل أيضاً، مثل ممارسة القوة الوحشية كوسيلة لإظهار قوة الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وبالنسبة لبعض المحافظين الجدد، إثبات أن مهمة الدمقرطة يمكن أن تواجه جاذبية الحركات الإسلامية المتطرفة في المنطقة.

إذا كان المشروع قد بدأ بالغطرسة والطموحات، فإنه انتهى بالدموع. إذ إن الأهداف غير الواقعية لدعاته اجتمعت مع قانون ’التبعات غير المقصودة‘ فكشفت جهلهم وغطرستهم. فبدلاً من جعل الديمقراطية تتبرعم وتنتشر في الشرق الأوسط، فإن الغزو خلق فراغاً أمنياً في قلب المنطقة. كما أطلق العنان لإيران العازمة على الانتقام من دعم واشنطن للشاه و "الحرب المفروضة" التي شنها صدام حسين عام 1980 لإسقاط الثورة الإسلامية. وغذى الغزو الخطاب الطائفي، الذي ساعد على تحويل الاستقطاب السياسي في العراق إلى ثلاث سنوات من الحرب الأهلية الوحشية. وقوض أسطورة القوة العسكرية الأميركية، الأمر الذي ترك سمعة أميركا في حقبة ما بعد الحرب الباردة بصفتها القوة العظمى الوحيدة، القوة القادرة على نحو فريد على فرض إرادتها ما وراء سواحلها، في حالة يرثى لها. وولّد موجة جديدة من المجموعات الجهادية، التي بلغت أوجها بظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو داعش، الذي لم يكتفِ باستغلال الفوضى الناشئة عقب الغزو بل عمقتها أكثر فأكثر. أدى هجوم تنظيم الدولة عام 2014 إلى إعادة القوات الأميركية إلى العراق بعد سنوات من محاولات واشنطن غسل يديها من الفوضى التي خلقتها. أخيراً، وليس بأي حال آخراً، فإن غزو عام 2003 حوَّل مبرري إدارة بوش العلنيين للغزو إلى مهزلة: إذ لم يجد المحققون لا أسلحة عراقية للدمار الشامل ولا علاقة بين نظام صدام حسين وهجمات 11 أيلول/سبتمبر.

تشريح الفشل

كان العراق في ظل حكم التنظيم الوحشي لحزب البعث بقيادة صدام حسين وأجهزته الأمنية مكاناً بغيضاً جداً، إلا أن الفرحة التي سببها سقوطه للكثير من العراقيين – الأكراد والشيعة الإسلاميين، على نحو خاص – تلاشت بسرعة. واتضح التناقض بسرعة كبيرة بعد "التحرير" في نيسان/أبريل 2003، عندما سئلت خلال زيارة لي إلى بغداد من قبل عشرات السكان الذين يحدوهم الأمل، الذين كانوا قد رحبوا بوصول القوات الأميركية، عن سبب عدم استعادة الجنود للنظام العام، وتركهم العصابات تنهب المباني الحكومية وتسرق تحفاً لا تقدر بثمن من المتاحف ومن المكتبة الوطنية. لم يتمكن هؤلاء العراقيين من فهم سبب سماح الجيش الأميركي بحدوث مثل تلك الفوضى؛ وفسروا ذلك على أنها نية شريرة -  مؤامرة لتعزيز الهيمنة الإمبريالية من خلال الدمار. ولم يسهم تفسير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بأن "الحرية حالة تفتقر إلى الترتيب" في تهدئتهم. كما شعروا بالغضب الشديد بسبب الإشارات المتكررة لوسائل الإعلام الغربية إلى "سقوط بغداد"، الذي استحضر دون شك نهب المغول للمدينة عام 1258، عندما كانت عاصمة الإمبراطورية العباسية ومركز التوهج الثقافي في ذلك الزمان، بدلاً من الإشارة إلى "سقوط النظام". وكانت مشاعرهم المعادية للغزو المستلهمة من القومية العربية يتشاطرها كثيرون على امتداد الشرق الأوسط، حيث كان النظام المخلوع يتمتع بدعم شعبي كبير بالتحديد بسبب وقوفه في وجه الأجندة الأميركية المفترضة. (كثيرون لم يكونوا يعلمون، أو أغمضوا أعينهم، عما كان يحدث داخل سجون صدام حسين.)

بعد عشرين عاماً، من الواضح أن الغزو كان فشلاً ذريعاً من معظم الأوجه، ليس بسبب افتقاره إلى التخطيط وحسب بل أيضاً بسبب سلسلة من الإخفاقات التي تلته وأصبحت سمات بارزة له. فمنذ البداية تقريباً، خسرت الولايات المتحدة قلوب وعقول كثير من الناس الذين قدمت لتحريرهم. إذ دعم هؤلاء، بدرجات متفاوتة من الحماسة، أفعال أقلية صغيرة اتجهت نحو مقاومة تزداد عنفاً لما سمته عن حق "احتلالاً" – وهو وضع أكدته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الوصيّة على اتفاقات جنيف لعام 1949، والولايات المتحدة نفسها. مهما كانت أشكال الحماية القانونية التي وفرها وضع الاحتلال هذا للمدنيين العراقيين، فإنه كان يعني أيضاً مستوى معين من الهيمنة الأجنبية التي لم تعجب كثيرين منهم.

خلال أسابيع، بعد الغزو، حدث المزيد من الأخطاء. بدأت هذه الأخطاء بتنصيب حاكم أميركي هو ل. بول "جيري" بريمر، بصلاحيات كاسحة ومعرفة محدودة بالبلاد. ثم أتى حل الجيش على يديه، رغم أن الجيش، من بين العدد الكبير من الهيكليات الأمنية في العراق، كان يظهر أقل قدرٍ واضح من الولاء للنظام، وكان فيه ضباط كان يمكن إصلاحهم لتوفير الأمن في سائر أنحاء البلاد.

خطوة خاطئة هائلة أخرى تمثلت في تطهير الدولة من الأعضاء السابقين في حزب البعث، وهو تحرك جاء مدفوعاً من قبل الأحزاب الإسلامية الشيعية الراغبة بالانتقام والتي كانت تتنافس على السيطرة. وكانت عملية اجتثاث البعث، كما نفذتها الولايات المتحدة عملية غير تمييزية، حيث عزل جميع المسؤولين الذين كانوا يشغلون المراتب العليا للحزب؛ لكن انتهى الأمر فيها انتقائية، حيث عفت الأحزاب الإسلامية لاحقاً عن عدد كبير من البعثيين الشيعة (باستثناء قلة قليلة ممن كانوا من ركائز النظام) ومنحتهم مناصب في النظام الجديد، لكن ذلك لم يشمل السنة.

وفوق كل ذلك أتت إقامة هيكلية حاكمة على نمط نظام المحاصصة اللبناني في التمثيل السياسي للمجموعات الإثنية–الطائفية حسب نسبتها المفترضة من السكان. يمكن لمثل هذا الترتيب أن يشجع الممارسات السياسية المدفوعة بالإجماع، إلا أنه يتعارض مع الحكم الفعال؛ فالجميع له مقاعد على الطاولة، لكن لا يستطيع أحد اتخاذ القرارات. وهذا يؤدي إلى مختلف أشكال الفساد، حيث يقدم السياسيون الرعاية والمحسوبية لناخبيهم، وهو ما لا يستطيع نظراؤهم الطعن به، خشية تقويض الصرح برمته. هذه الأفعال، إضافة إلى الفشل في وقف النهب، كانت الآثام الأصلية للاحتلال.

قصة موضوعين مهيمنين

إلا أن الموضوعين الطاغيين على مدى العقدين الماضيين كانا، أولاً، كيف أن الولايات المتحدة، بالتنسيق مع العائدين من المنفى، عرَّفت العراق بشكل دائم على أنه يتكون من ثلاثة مكونات رئيسية - الأكراد، والشيعة والعرب السنة – وحوّلت المجموعة الأخيرة، ككتلة واحدة لزجة وغير متمايزة، على أنها الخاسر الرسمي. وأصبح العراق حالة درسية نموذجية على الكيفية التي يدفع فيها الإقصاء – في هذه الحالة نزع تمكين السنة في ظل ما أصبح حكماً شيعياً – إلى الشعور بالظلم، الذي يمكن لتراكمه أن يولّد العنف.

مع وجود السنة خارج السلطة، ازدهر تمرد مسلح قادته القاعدة في العراق وسط الفوضى، وهو ما لم تتمكن الولايات المتحدة من معالجته، ويمكن المجادلة بأنها لم تكن مهتمة بمعالجته. وبالنظر إلى عدم رغبة واشنطن بالغرق في وحل المنطقة ليوم واحد أطول مما ينبغي، فإنها كانت قد سحبت قواتها بحلول نهاية عام 2011، لكن لتعود بعد ثلاث سنوات فقط مع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (الذي نشأ من رحم القاعدة في العراق) على مناطق في شمال سورية والعراق. اليوم، قد يكون تنظيم الدولة قد قُمع بالوسائل العسكرية، لكن المظالم ما تزال تعتمل تحت السطح، يغذيها الحكم المهمل، والتمثيل السياسي الناقص وعدم الوصول إلى الرعاية والمحسوبية. لقد حُمِّل سكان الفلوجة، والرمادي، وما تبقى من الموصل ومجموعة أخرى من البلدات الأصغر في غرب وشمال غرب البلاد، فعلياً، مسؤولية جميع انتهاكات النظام السابق. وتنفّذ بقايا تنظيم الدولة الإسلامية، المختبئة في مناطق ذات تضاريس صعبة، عمليات محلية بينما تنتظر اليوم الذي تضعف فيه سيطرة بغداد مرة أخرى.

الموضوع الطاغي الثاني يتمثل في أن الاحتلال الأميركي مكَّن إيران من نشر نفوذها في سائر أنحاء العراق – من خلال قادة سياسيين وميليشيات وكيلة متعاطفة معها – حتى حدود السعودية، والأردن وسورية، ما يوحي بانتصار إيراني متأخر في الحرب التي دارت رحاها بين عامي 1980 و1988. ويوفر مصير إيران في تلك الحرب الدافع اليوم لاستعمالها للعراق كعمق إستراتيجي ضد عالم عربي معادٍ لها بشكل عام، وأيضاً كساحة لتصفية الحسابات. لقد شعرت طهران أساساً بأن القيود التي تعيق فرض نفوذها في الإقليم كانت قد تفككت بشكل كارثي، بعد أن كان الغزو الأميركي لأفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر 2011 قد أزاح طالبان، أحد خصومها الآخرين.

يعزى صعود إيران في العراق والشرق الأوسط بشكل أكثر اتساعاً في كثير من الأحيان إلى تطلعات لفرض هيمنتها الإقليمية. قد يكون لديها مثل تلك التطلعات. لكن يمكن للمرء أن يجادل بقدر مماثل أيضاً من التبرير بأن إيران أثبتت قدرة على استغلال الظروف المواتية التي صادفتها. لقد ساعدت في تأسيس حزب الله في لبنان رداً على الغزو الإسرائيلي للبلاد عام 1982، والذي لم يلحق الضرر باللاجئين الفلسطينيين فحسب بل أيضاً بالسكان الشيعة الذين يشكلون الأغلبية في المنطقة. ووسعت نفوذها في العراق بفضل الغزو الأميركي. واندفعت لمساعدة حليفها السوري بشار الأسد عندما ترنح نظام الأخير في وجه احتجاجات شعبية ومعارضة مسلحة في عام 2011. أخيراً، رمت بثقلها خلف المتمردين الحوثيين في اليمن بعد تدخل عسكري سعودي–إماراتي فاشل لكن مستمر في عام 2015. في العراق، ولبنان واليمن، استفادت إيران أيضاً من وجود مجموعات إسلامية شيعية حريصة على الوصول إلى السلطة محلياً بمساعدتها.

إن احتواء إيران سيتطلب مواجهتها بمجموعة من الظروف المحلية غير المواتية لها. إن إعادة بناء الدول العربية على أساس من الشرعية الشعبية، بما في ذلك في العراق، سيشكل أكثر التغيرات أهمية في هذا الصدد. في عام 2011، وبعد ثمان سنوات من غزو العراق، أظهر التونسيون، والمصريون، والليبيون، والسوريون، واليمنيون، والبحرينيون وغيرهم الشكل الذي ستبدو عليه إعادة صياغة النظام السياسي الإقليمي إذا حدث ذلك من القاعدة إلى القمة. لكن الأنظمة المحاصَرة قمعت المحتجين بشراسة في الميادين والساحات، بينما قوضت قوى إقليمية مثل إيران، ودول الخليج العربية وتركيا جهودهم، لاسيما في سورية. هذه التطورات جعلت نتائج تلك اللحظة المفعمة بالأمل في سائر أنحاء المنطقة بائسة بنفس المقدار الذي عانى منه العراقيون بعد عام 2003، إن لم يكن أكثر. رغم ذلك، ما يزال من الممكن تخيُّل تحقيق حالة حوكمة واعدة بوسائل غير التدخل الخارجي أو التمرد الداخلي؛ والعراق، الذي ما يزال يحتفظ بقدر من التماسك الوطني بعد 20 عاماً من الغزو، قد يتمكن من توفير أفكار عملية يمكن استعمالها، لأنه شهد على الأقل بعض التطورات الإيجابية أيضاً نتيجة الغزو الأميركي.

إنه ما يزال موجوداً

على عكس تنبؤات بعض المراقبين (وفي بعض الأحيان، تمنياتهم أيضاً)، فإن الغزو لم يُنهِ العراق. ظلت الحدود ثابتة وعادت النزعة الوطنية العراقية إلى الظهور رغم الانفجار الأولي للمشاعر دون الوطنية. (نجح الأكراد في الحصول على درجة أكبر من الحكم الذاتي، لكن ليس الاستقلال الكامل الذي طالما سعوا إليه.) وبات المجتمع العراقي يتمتع بدرجة من الحرية. وبات في البلاد نظام متعدد الأحزاب للمرة الأولى في تاريخه، وجرت فيه انتخابات برلمانية نزيهة نسبياً، وبات فيه صحافة حرة (لكن يمكن ترهيبها بسهولة). وبموجب التركيبة الراهنة في العراق، لا يمكن لأي قائد مستبد أن يتصرف دون قيود على سلطته. إلا أن الضعف الذي يعاني منه المركز، الذي تقوده طبقة سياسية فاسدة غير قادرة على توفير شيء يشبه الحكم الرشيد، مكَّن ظهور هذه الملامح المهمة لكنه أدى أيضاً إلى نشوء ميليشيات افتراسية وتوغلات متكررة من قبل إيران وتركيا المجاورتين.

أما كيف لهذه النتائج أن تعود بفائدة ملموسة على الولايات المتحدة، رغم كلفتها الكبيرة من حيث الدماء والأموال، فهو أمر يمكن للمرء أن يخمنه فحسب، حيث الصناعة العسكرية الأميركية والمصالح التجارية الأخرى هي الاستثناءات الوحيدة التي يمكن تخيلها بسهولة. هناك أولئك الذين جادلوا قبل الحرب بأن المشروع المقترح لإدارة بوش لم يصمم بشكل جيد، ونفذ على أساس معلومات خاطئة من مجموعة صغيرة من العراقيين المنفيين الذين كانت لهم أجنداتهم الضيقة الخاصة. ومن ثم ما كان له أن ينجح، حتى لو لم تكن القوة الغازية والمحتلة عديمة الكفاءة بالشكل الكارثي الذي أثبتته.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.