بعد العراق: كيف فشلت الولايات المتحدة في التعلّم من دروس تدخل كارثي
بعد العراق: كيف فشلت الولايات المتحدة في التعلّم من دروس تدخل كارثي
US marines from the 3/5 Lima company take position on the roof of a building while conducting search operations in the restive city of Fallujah 13 November 2004, west of Baghdad. US troops tightened their grip on Fallujah but clashed with rebels in rag's third city of Mosul and outside Baghdad where insurgents shot down a Black Hawk helicopter injuring three crew members.
US marines from the 3/5 Lima company take position on the roof of a building while conducting search operations in the restive city of Fallujah 13 November 2004, west of Baghdad. AFP / Patrick Baz
Commentary / United States 12 minutes

بعد العراق: كيف فشلت الولايات المتحدة في التعلّم من دروس تدخل كارثي

تمثّل الدرس المحوري في حرب العراق عام 2003 في أن تفكيك البيئات الاستبدادية عملية حافلة بالمخاطر بطبيعتها. ولذلك ينبغي على صناع السياسات مقاربة التدخلات المقترحة في مثل تلك البيئات بحذر.

تمثّل الدرس المحوري في حرب العراق عام 2003 في أن تفكيك البيئات الاستبدادية عملية حافلة بالمخاطر بطبيعتها. ولذلك ينبغي على صناع السياسات مقاربة التدخلات المقترحة في مثل تلك البيئات بحذر.

عندما حذر الرئيس باراك أوباما فريق السياسة الخارجية لديه قائلاً: "لا تفعلوا أشياء غبية،" (استعمل عبارة أكثر فجاجة)، لم يكن هناك شك فيما يقصده. ففي عام 2002، عندما كان أوباما عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية إيلينوي، حذر من أن الغزو الأميركي للعراق سيكون "حرباً غبية ... حرباً متهورة". بعد ست سنوات، ساعدته هذه المعارضة القائمة على أساس بصيرة نافذة في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة ومن ثم فوزه بالبيت الأبيض. بحلول الوقت الذي باتت فيه نصيحة أوباما الحاذقة لمرؤوسيه علنية في عام 2014، كان قد تشكل في واشنطن إجماع متزايد على أن غزو العراق كان أكبر خطأ ارتكبته الولايات المتحدة في سياستها الخارجية منذ حرب فيتنام. بات من الواضح ما كان يقصده.

كمبدأ توجيهي، من المؤكد أن حذر أوباما كان مبرراً. فالحرب التي شنها سلفه، جورج دبليو بوش، كانت كارثية للعراق، والشرق الأوسط والولايات المتحدة. وفي حين أن كثيرين يعبرون عن ارتياحهم لأن العراق بات يمتلك ديمقراطية، ولو كانت فوضوية، فإن هذا الإنجاز المحدود لا يبرر إطلاقاً التكاليف الأخلاقية والإستراتيجية للحرب. لكن دراسة متفحصة لسجل أوباما نفسه يكشف أن الحكمة الكامنة وراء تحذيره لم تتجلّ، في مناسبات محورية، إلّا في تجاهلها وحسب. فما الذي حدث؟

من النظرية إلى التطبيق

حتى لو كانت نصيحة أوباما صائبة بصورة مجردة، فإن إدارته نفسها وجدت صعوبة في اتباعها من حيث التطبيق العملي. وبالفعل، فإن أي تفكير منصف في السجل التاريخي لا بد له أن يستنتج أن إدارة أوباما كررت بعض أخطاء سابقتها في مجال السياسة الخارجية، ولو على نطاق أصغر وفي ظروف مختلفة.

قد يبدو النظر إلى الماضي من منظور الحاضر، وبهذه الصرامة، غير منصف، ولا سيما بالنظر إلى التحديات التي واجهها فريق أوباما في المناورة للسير في التضاريس الصعبة (وغير المتوقعة) في مجال السياسات، والتي تسبب بها الربيع العربي في عام 2011. ومن المستحيل تخيُّل أن تتجاهل إدارة أوباما خروج الناس إلى الشوارع والتظاهر ضد القمع والفساد والمطالبة بحقوقهم الأساسية. وبالتأكيد ما كان ينبغي لها أن تفعل ذلك.

غير أن النقاط العمياء لدى إدارة أوباما، والتي باتت أوضح بالتأكيد بالنظر إليها من منظور ما نعرفه اليوم، بادية دون شك في إخفاقاتها في ليبيا وسورية. ففي مواجهة التحركات الجماهيرية البطولية التي دفعت الانتفاضات في كلا البلدين، والشعور بالإمكانات الانتقالية التي خلقتها، ووحشية ردود فعل السلطتين الاستبداديتين هناك، والضغوط السياسية الداخلية الكبيرة على الإدارة لفرض قيادة الولايات المتحدة هناك، فِإن الإدارة تعثرت. فقد استخدمت لغة واتبعت سياسات – في تلك اللحظة – كانت تنسجم مع الدور الذي أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها من واشنطن أن تلعبه في النظام العالمي. لكنها احتوت ما بات واضحاً الآن أنها أخطاء كبيرة، ونشرت بالفعل بذور الفشل.

ساعدت الولايات المتحدة وشركاؤها ... المتمردين الليبيين في الإطاحة بنظام القذافي ... لكنها وضعت البلاد أيضاً على مسار يفضي إلى حرب أهلية لم تتم تسويتها حتى الآن

تشكل ليبيا طبعاً الدليل الأول. فهناك، ومع خروج السكان ضد النظام الاستبدادي للعقيد معمر القذافي، الذي كان يهدد بقمع بشع (ولا سيما في مدينة بنغازي الشرقية)، فإن إدارة أوباما قادت اندفاعة لمجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرار يسمح باستعمال القوة لحماية المدنيين. ثم قادت الولايات المتحدة العمليات العسكرية لفرض القرار، مع حلفائها الأوروبيين والعرب. لكن الدول المتدخلة فسرت النص بشكل موسع، وما كان قد بدأ بصفته مهمة لحماية المدنيين أصبح حرباً لتغيير النظام. في النهاية ساعدت الولايات المتحدة وشركاؤها المتمردين الليبيين في الإطاحة بنظام القذافي، الأمر الذي أزال خطراً فورياً ومباشراً على السكان الموجودين في وضع هش، لكن ذلك دفع البلاد أيضاً على مسار من الحرب الأهلية التي لم تتم تسويتها بعد.

ثم جاءت سورية. مع اقتراب التدخل الليبي من نهايته – وقبل ظهور الحدود الفوضوية لتداعياته بشكل كامل – واجهت الوحشية المتنامية لنظام بشار الأسد الإدارة بما بدا من بعض النواحي بخيار مماثل. مع قيام نظام الأسد بتدريب بنادقه على الجماهير المطالبة بإسقاطه، حققت المظاهرات زخماً متنامياً وبدأ ضباط الجيش بالانشقاق. بدا لكثيرين أنه سيترتب على الرئيس السوري أن يتراجع. أحجم الرئيس أوباما في البداية عن التدخل، وسط انقسامات داخل إدارته بشأن كيفية الرد، لكن في آب/أغسطس 2011، ومع مشاهدة التطورات على الأرض، بدا وكأنه يأخذ موقفاً، فأعلن أن "الوقت قد حان كي يتنحى الأسد". بدا أن نهاية النظام قد باتت رهاناً آمناً في تلك اللحظة – واستمر هذا الشعور لفترة من الوقت بعد ذلك. مسؤول أممي رفيع يعمل على الملف السوري أخبرني في كانون الأول/ديسمبر 2012 أنه حتى أشد داعمي الأسد الخارجيين، إيران وروسيا، كانتا قد عبرتا عن هواجسهما له بأن النظام قد لا يستطيع الاستمرار.

لكن الأسد لم يتنحَ. بل على العكس، فإن داعميه زادوا مساعدتهم لنظامه، وفي النهاية، زادوا من انخراطهم هم في الصراع. بعبارة أخرى، فإن إعلان أوباما جمع بين الفشل التحليلي – مهما كان الخطأ في ذلك مفهوماً حينذاك – والتعثر السياساتي. وصلت الإدارة إلى الاستنتاج، استناداً إلى الأحداث، أن سقوط الأسد بات أمراً محتماً، كغيره من القادة العرب الذين كان قد أطيح بهم خلال الانتفاضات. على هذه الخلفية، ربما فكرت الإدارة أن إستراتيجيتها كانت غير مكلفة؛ فهي متوافقة مع تطلعات الحركة الاحتجاجية وتكتفي فقط بالتنبؤ بالاتجاه الذي تتخذه حركة التاريخ، وربما تسريع هذه الحركة.

مهما كان قصد أوباما من البيان، فإنه أوجد توقعات بأن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات لضمان الحصيلة التي أعلنت أنها تسعى إليها. بدلاً من ذلك، فإن غرائز أوباما في عدم التدخل هي التي سادت، ودخلت الإدارة في مجال الإجراءات المنقوصة. فوسط الأهوال المرعبة للحرب الأهلية، شعرت الولايات المتحدة بأنها مجبرة على فعل شيء حيال إصرارها المتكرر بأن نظام الأسد كان قد فقد شرعيته. تجنبت الانخراط العسكري المباشر، واختارت بدلاً من ذلك دعم سلسلة من مجموعات المعارضة التي تصف نفسها بأنها "معتدلة". حينذاك، كانت المعارضة السورية المسلحة من مختلف الانتماءات تتلقى الأسلحة من خلال قنوات غير منسقة وغير رسمية، مثل الشبكات الإسلامية ومهربي الأسلحة. دخلت الولايات المتحدة المشهد وقدمت فقط مساعدات غير قاتلة، لكن لاحقاً، ذُكر أنها دربت وجهزت المعارضة المسلحة من خلال مختلف الأدوات السرية. جهات فاعلة خارجية أخرى، مثل تركيا، ودول الخليج العربية والدول الأوروبية، كانت ضالعة أيضاً في هذا الجهد، الذي تنامى على الجانب الأميركي بشكل كبير ليصل إلى موازنة سنوية تقدر بـ 1 مليار دولار.

مع تعمق واتساع الحرب الأهلية السورية، تطورت أهداف إدارة أوباما وابتعدت عن تغيير النظام باتجاه هدف جديد؛ فهي ستحاول استعمال دعم مضبوط بعناية للقوة العسكرية لتغيير حسابات الأسد وحلقته بحيث يتقبل اتفاقاً متفاوضاً عليه لإنهاء الحرب. تبين أن هذه المهمة أيضاً غير قابلة للإدارة، بالنظر إلى أن نظام الأسد فهم أنه في معركة حتى الموت، وفي كل الأحوال، لم تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة بشكل كامل على ما يفعله شركاؤها على الأرض. داخل الحكومة الأميركية، كان هناك حديث عن "نجاح كارثي"، بالإشارة إلى هواجس من أن الإطاحة بالأسد من شأنها أن تفاقم الصراع الإثني – الطائفي وشرور أخرى. وكان الأثر التراكمي لهذه الأشكال غير المباشرة من التدخل الإطاحة بالأسد تقريباً، لكن ليس تماماً، لكنها بدلاً من ذلك سرّعت حلقة التدخل الخارجي بطرق انعكست في النهاية لصالحه. كانت المعارضة المسلحة ربما ستتمكن من الإطاحة به في عام 2015، لكن روسيا اندفعت لمساعدته.

رأى أوباما ومستشاروه فرقاً حاسماً بين جهود بوش لتغيير الأنظمة وجهودهم هم

ما الذي دفع الإدارة إلى تجاهل دعامات نجاحها السياسي القائم على عدم التدخل وتوريط نفسها بشكل كامل في هذه الصراعات -  قبل التراجع في سورية؟ من المؤكد أن أوباما ومستشاروه رأوا اختلافاً حاسماً بين محاولات بوش في تغيير الأنظمة ومحاولاتهم هم. في الحالة السابقة، كان بوش قد دفع للتخلص من صدام حسين بربطه زيفاً بهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. لم يكن هناك حركة احتجاجية جماهيرية عراقية تطالب بالإطاحة بالديكتاتور. في حالتهم، قرر فريق أوباما أن تقف الولايات المتحدة في صف المحتجين الشجعان الذين بدا أنهم على الجانب الصحيح من التاريخ. وبدا أن بعضهم يعتقد أن الظروف في الحالة الثانية، إضافة إلى الواجب الأخلاقي بمنع حدوث فظاعات على نطاق واسع و(في ليبيا) وجود تفويض من الأمم المتحدة، منحهم مبرراً وفرص نجاح أكبر مما تمتع به أسلافهم. مهما كانت الحالة، فإنهم في حماستهم فقدوا رؤيتهم للدرس الجوهري الذي تكشفه إخفاقات الولايات المتحدة في العراق. فجميع حالات التفكيك السياسية حافلة بالخطر، في هاتين الحالتين حتى عندما تكون ناجمة عن تعبئة شعبية بطولية.

حتى اليوم، عندما أعلن بعض أكثر داعمي غزو العراق توبتهم، وأصبحت الدعوات بوضع حد لـ"الحروب الأبدية" لحقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر واسعة الانتشار، من الصعب معرفة ما إذا كانت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية قد تعلمت الدرس فعلاً. إذ سحبت إدارة بايدن القوات الأميركية من أفغانستان وقلصت عمليات محاربة الإرهاب في أماكن أخرى، لكن الولايات المتحدة ما تزال منخرطة عسكرياً على نطاق عالمي وما تزال الأسس القانونية للحرب على الإرهاب بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر قائمة. لكن بات هناك عوائق في مسار نزعة التدخل على النمط القديم فرضها التعب والإجهاد، في أوساط السياسيين والجمهور على حد سواء، إضافة إلى الذكريات الحديثة لحالات الفشل في الماضي. لكن كما توضح الدعوات المتحمسة لقيام الولايات المتحدة بعمل عسكري ضد كارتيلات تجارة المخدرات المكسيكية – فإن هذا المسار لم يغلق بشكل كامل. وفي حين يبدو أن الشهية للتدخل الإنساني واسع النطاق قد تراجعت، فإن فكرة تغيير الأنظمة كهدف للولايات المتحدة قد غذى بشكل متقطع النقاشات السياساتية في حقبة ما بعد أوباما حول دول مختلفة مثل إيران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية وروسيا. كما أن النزعة العسكرية المفرطة في الثقة التي حرّكت حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لم تختفِ بعد؛ إذ إن بعض نفس الأصوات التي تنصح بالحذر عندما يتعلق بالسياسة الأميركية حيال أوكرانيا تصبح من بين الأكثر عدوانية عندما يتعلق الأمر بالسياسة الأميركية حيال الصين.

علاوة على ذلك، ما يزال كثير من انتقادات النزعة الأميركية للتدخل يركز على نحو محبط على ما كان يمكن أن تفعله واشنطن لتنفيذ مغامراتها بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بشكل أكثر كفاءة بدلاً من دراسة الفرضيات الخاطئة للمشروع برمته. صدرت إحدى هذه الصرخات المتحمسة عن رايان كروكر، السفير الأميركي الأسبق في العراق وفي أفغانستان، الذي قال إن إدارة بايدن أظهرت حالة من غياب "الصبر الإستراتيجي" في الانسحاب من أفغانستان. وعلى نحو مماثل، فإن قدراً كبيراً من النظر في قرارات إدارة أوباما بشأن سورية ما يزال ينعي فشلها في التدخل بشكل أكثر فعالية.

لماذا تفشل الطرق المختصرة

إن إغراء الاعتقاد بأن تغيير الأنظمة يمكن أن يوفر طريقة جاهزة للخروج من حاضر لا يحتمل، أي طريقاً مختصراً عبر التاريخ، يمكن فهمه على مستوى معين، لكنه يتجاهل بعض النقاط الجوهرية. وتتمثل أولى هذه النقاط في أن الأنظمة الاستبدادية أكثر قدرة مما ترغب الحكومات الغربية بالاعتراف به على تعزيز حكمها وجعل ظروف انهيارها خطيرة جداً. إن فشل حرب العراق، ومن ثم الانتفاضات العربية، يبرز المأزق الذي يواجه الديمقراطيين المحليين وداعميهم الخارجيين. إن نيات المحافظة على النظم الاستبدادية في مكانها، والمتمثلة في تدمير الأحزاب السياسية المستقلة، ومطاردة المجتمع المدني، وخنق جميع أشكال عدم الامتثال، والتركيز المفرط للسلطة – يضمن أن شذرات عملية انتقال ناجحة في لحظات التغير السياسي غير موجودة. وبالنظر إلى افتقار الإصلاحيين المحتملين إلى مخرج، فإن الوضع يتحول إلى ما يشبه وضع الرهائن.

عندما بدأت الانتفاضات العربية بفقدان جاذبيتها، وجد البعض عزاءً في فكرة أن النظم الاستبدادية، غير المستقرة بطبيعتها، ستشعل هي نفسها فتيل معارضة منظمة بما يكفي لإسقاطها. بدا أن الرئيس أوباما نفسه قد أعطى مصداقية لهذه الفكرة في شباط/فبراير 2011، عندما فرضت الاحتجاجات الجماهيرية الإطاحة بحسني مبارك في مصر، ملاحظاً أن "العالم يتغير" و"لا يمكن الاحتفاظ بالسلطة من خلال الإكراه". لكن مجرد قراءة عابرة للتاريخ المعاصر تظهر أن الصفقة الاستبدادية، على عيوبها، قابلة للاستدامة في كثير من الأحيان. فعندما فقد مبارك السلطة، كان قد مضى على وجوده فيها أكثر من ثلاثين عاماً، في استمرار للنظام المدعوم عسكرياً الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1952 وحافظ عليه أنور السادات.

لقد عملت الأنظمة العربية بجد لإحباط تطور بدائل لحكمها

لا يعني أي مما سبق تكرار الزعم بأن العالم العربي يتميز بطبيعته وعلى نحو فريد بعدم قابليته للديمقراطية وأن أي محاولة لتحقيقها محكومة بالفشل. إلّا أن الثقافة والمؤسسات السياسية مهمة، وهي نتاج سنوات من الجهود والتنظيم. وقد عملت الأنظمة العربية الاستبدادية بجد على إحباط تطور بدائل لحكمها. وبفعلها ذلك، فإنها تحد من الخيارات المتوفرة أمام أي نظام يحل محلها. إن تغيير المشهد مشروع كبير، وهو مشروع يستغرق وقتاً.

وتعد مصر مثالاً على ذلك. ففي حين أن انتفاضة عام 2011 تسببت بهجمات للنظام تهدف إلى قمع الاحتجاجات، فإن البلاد لم تستسلم للصراع الأهلي ولم تواجه فشل الدولة. لكن حتى دون حرب أهلية وطغيان العنف، فإن العقبات الماثلة أمام الانتقال السياسي في مصر ظلت عميقة بعد عقود من الحكم الاستبدادي.

وكانت واشنطن محقة تماماً في عدم وقوفها في وجه سقوط مبارك، الذي أحدثه المصريون أنفسهم. وعلى نحو مماثل، فإن فشل المرحلة الانتقالية في حقبة ما بعد مبارك كانت أيضاً مسؤولية المصريين بشكل رئيسي. لكن في حين أن الأخطاء التحليلية لواشنطن لم تدفع الأحداث على الأرض، فإنها تستحق المراجعة بسبب ما تكشفه عن ذهنية السياسة الخارجية الأميركية، أي قيامها على افتراضات غير واقعية بشأن مدى سرعة تكيف الدولة والمجتمع مع الوقائع المشوشة للمرحلة الانتقالية. بعد سقوط مبارك، تذمر بعض المسؤولين الأميركيين من ضعف الأحزاب غير الإسلامية في البلاد وكذلك السياسيين غير الإسلاميين، الذين فشلوا في تشكيل تحالف قوي بما يكفي لمواجهة الإخوان المسلمين، سواء من حيث رؤيتهم للبلاد أو تنظيمهم على الأرض. وأوحى إحباطهم بأنهم كانوا يعتقدون أن مثل تلك المؤسسات يمكن أن تظهر، وتنضج وتتشكل بصورة كاملة بين ليلة وضحاها.

من الناحية العملية، بالطبع، فإن هذه المؤسسات لا يمكن أن تظهر بهذه السرعة. وقد تكون القوى غير الإسلامية قد حققت تقدماً في التكتل، لكن بعد مرور وقت وحسب. إن عقوداً من القمع كانت قد تركت، عن عمد، المشهد السياسي المصري مفككاً. لم يتمكن الإخوان من السيطرة على دولة كانوا يقودونها ظاهرياً. فأطيح بهم في انقلاب في تموز/يوليو 2013 أدى إلى قيام نظام يشكل تنويعاً على النظام القديم المدعوم عسكرياً، أكثر تماسكاً وشراسة من أي وقت مضى، في ظل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.

دروس لم يجرِ تعلمها بشكل كامل

لم تكن هذه الدروس الكامنة واضحة بعد لإدارة أوباما في مداولاتها بشأن ليبيا وسورية. وإلى الحد الذي بدأت فيه بالتبلور، فإنها ربما أصبحت أقل وضوحاً، في هذه الحالات، لأن الأساس الأخلاقي لتدخل الولايات المتحدة بدا مقنعاً ومسار التطورات مشجعاً. كما بدا من الصعب رسم المسارات البديلة في مثل تلك الظروف. ولم تكن الإدارة راغبة بأن ينظر إليها على أنها تعيق تحقيق أهداف الانتفاضات. كان هناك ضغط شعبي كبير للوقوف إلى جانب الحركات الاحتجاجية. وكان صناع القرار الرئيسيين في الإدارة متعاطفين على نحو يمكن فهمه مع الانتفاضات التي بدت واعدة بتخليص الشرق الأوسط من البلاءين المترافقين، وهما الحكم الاستبدادي المدمر وجاذبية التطرف الإسلامي. وقد يكون الأمر الحاسم هو أنه لم يحدث نقاش بنّاء مع الأنظمة بشأن مخرج سلمي إلى الأمام لأن هذه الأنظمة رأت أن الصراع وجودي.

النوايا الطيبة [لدى الولايات المتحدة] التي صاحبت الاندفاعة نحو تغيير النظام لم تجنب ليبيا ولا سورية مصيراً مشابهاً لمصير العراق

مهما كان من الممكن فهم سياساتها التي أتت رداً على العنف المروع، يجب على الولايات المتحدة أن تعالج تبعات كلماتها وأفعالها في كلا البلدين. وتقع المسؤولية الأولى على الأنظمة التي، في رفضها التخلي عن أي قدر ولو صغير من السلطة، تحركت لسحق الانتفاضات، وحولتها إلى حروب. من الصعب معرفة النتائج التي كان يمكن لسياسات مختلفة أن تفضي إليها. لكن يجب أن تتم دراسة الأفعال التي قامت بها الولايات المتحدة فعلاً إذا كان هناك رغبة بتعلم الدروس المستفادة منها على المدى البعيد.

إن أخطاء الولايات المتحدة السابقة لا تعني أنه يجب عليها أن تتخلى عن مناصرة إجراء إصلاحات سياسية عقلانية في الشرق الأوسط. لكن ينبغي أن تعكس سياساتها الواقع المتمثل في أن مسائل الإصلاح السياسي بعيدة المدى ستظل موجودة إلى جانب الاحتمالات القائمة لعدم الاستقرار. وفي حين لا يوجد مخطط واضح لكيفية الاستجابة لكل حالة من حالات عدم الاستقرار، وستتفاوت استجابة الولايات المتحدة حسب الحالة، ينبغي على واشنطن أن تقارب هذه الأوضاع بشعور واضح بالقيود المفروضة على قدرة أي قوة خارجية على التحكم في مسار الأحداث.

هل ستفعل ذلك؟ من جهة، ثمة علامات على أن واشنطن قد استوعبت هذا الدرس. ففي إيران، على سبيل المثال، أظهرت إدارة بايدن دعمها للمتظاهرين الشجعان بفرض عقوبات محددة على جهات فاعلة في النظام ومن خلال التعبير عن دعمها لحقوق الإنسان – غالباً بالتنسيق مع الحلفاء الغربيين. وقد ابتعدت عن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير النظام. لا ترضي هذه المقاربة أكثر منتقدي النظام حماسة، لكنها قد تكون الطريقة الأكثر مسؤولية لدعم المطالبة بالكرامة والحرية، وفي الوقت نفسه إدارة التوقعات بشأن قدرة واشنطن على تحقيق التحول الذي يرغب كثيرون، في إيران والولايات المتحدة، برؤيته.

رغم ذلك، من المنصف التساؤل عما إذا كان هذا النوع من الحذر والتواضع سيستمر. فالضغوط الرامية إلى جعل الولايات المتحدة تتخذ إجراءات حاسمة ستعود. وفي مواجهة لحظة مثل لحظة الانتفاضات العربية عام 2011، ليس من المستحيل تخيُّل أن يقنع هذا الجيل، أو جيل قادم، من المسؤولين أنفسهم بأنهم يستطيعون التدخل بطريقة أفضل من أولئك الذين فشلوا من قبلهم. إذا كان هناك درس واحد من حرب العراق والمغامرات الفاشلة التي تبعته، فهو أن هذه التقييمات الذاتية نادراً ما تكون صحيحة.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.