البحرين وانسداد الأفق
البحرين وانسداد الأفق
Football and Politics in the Gulf
Football and Politics in the Gulf
Op-Ed / Middle East & North Africa 5 minutes

البحرين وانسداد الأفق

سادت في المنامة يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أجواء ترحيب غير معهودة، وانهالت على الصحفيين الأجانب الذين سمح لهم بدخول البحرين للمرة الأولى منذ أشهر الدعوات 'للاحتفال' في قصر ملكي فخم، كما عرضت عليهم إمكانية إجراء مقابلات مع مسؤولين بحرينيين عادة ما كانوا متحفظين. تمثلت المناسبة في إصدار التقرير الذي طال ترقبه حول العنف الذي تميزت به معالجة الحكومة البحرينية للانتفاضة الشعبية التي اندلعت الربيع الماضي. وبما أن التقرير كان قد طٌلب ودفعت تكاليفه من جانب الحكومة نفسها، فكان المسؤولون يتوقعون أن يحتوي على انتقادات طفيفة وظنوا بأن تلك الصفحة ستطوى فور صدوره. إلا أن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن
 
تمثلت المفاجأة الحقيقية ذاك اليوم في التقرير نفسه. إذ عندما طلب رئيس اللجنة المسماة باسمه، شريف بسيوني الذي يعمل في جامعة دي بول، في نهاية تشرين الاول/أكتوبر تأجيل إصدار التقرير لمدة ثلاثة أسابيع، ظن العديد من البحرينيين أن ذلك كان لتعديل التقرير تماشياً مع مصالح العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى. إلاّ أن شيئاً لم يكن أبعد عن الحقيقة من ذلك الاعتقاد. جرى كشف النقاب عن تقرير بسيوني المؤلف من 500 صفحة في قاعة استقبال كبيرة في القصر مفروشة بالسجاد الأحمر تدلّت فيها الثريات الضخمة. جلس الملك على يسار رئيس اللجنة بسيوني؛ فيما جلس كبار الشخصيات والضيوف المكرمين أمامه. لكن ذلك لم يرهب بسيوني. غلّف الصمت الغرفة فيما بدأ هو بتلاوة النتائج التي توصلت إليها اللجنة، ونطق بكلمات مثل 'الاغتصاب' و 'التعذيب' الذي شاركت فيهما قوات الأمن. وكان بسيوني واضحاً في أن هذه الانتهاكات لم تكن مجرد أعمال عشوائية ارتكبتها قلة قليلة من العناصر الفاسدة. وقال إن عدداً من المعتقلين تعرضوا للتعذيب مما يثبت وجود ممارسة متعمدة من جانب البعض. لعلها المرة الأولى في التاريخ الذي يقف فيها قاض مستقل أمام عاهل خليجي ويتهم حكومته جهراً بانتهاكات منهجية. لم يظهر الملك حمد بن عيسى رد فعل واضح؛ بل ألقى خطاباً معداً مسبقاً لم يتطرق مباشرة إلى نتائج التقرير. أما بدا الملك في تعليقاته متحدياً ومتمسكاً برواية النظام بأن إيران وراء الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وشكر قوات الأمن لإعادة فرض النظام في البلاد. كما أعرب عن امتنانه للقوات السعودية التي دخلت البحرين في آذار/مارس الماضي تحت مظلة دول مجلس التعاون الخليجي لمساعدة الحكومة خلال الاحتجاجات وقال إن هؤلاء الحلفاء شاركوا في حماية المنشآت الرئيسية من خلال نشر قوات درع الجزيرة ، من دون أي مواجهة مع المدنيين. ولكن بعد انتهاء الحفل الرسمي تم إيقاف إصدار الدعوات للصحفيين كما ألغيت اللقاءات مع وزير الخارجية. ألمح مستشارون للحكومة إلى أن التقرير قد أخذ العائلة الملكية على حين غرة. وانتهى الاستقبال الحار

كان التقرير بحد ذاته في الواقع متوازناُ على نحو مثير للإعجاب. ورغم كل الصعاب وفي أقل من خمسة أشهر من التحقيق والتحليل والصياغة تمكن فريق بسيوني من كتابة تقرير مفصل للغاية وبمهنية عالية، ما أضفى عليه درجة كبيرة من المصداقية. فبالإضافة إلى الإجراءات القمعية التي اتخذتها الحكومة، وثّقت اللجنة أيضاً الانتهاكات التي قامت بها مجموعات من المتظاهرين. إذ ذكر التقرير مقتل عمال من جنوب آسيا. ووفقاً للتقرير، فإن 'هناك درجة عالية من عدم الثقة بين الشيعة في البلاد ضد المهاجرين وذلك لأنهم من ناحية يدركون أنهم يشكلون تهديداً للمواطنين البحريين الأصليين في سوق العمل، ومن ناحية أخرى بسبب انخراطهم في العمل مع قوات الأمن'. كما يصف التقرير أيضا الاتهامات وحملات التشهير الموجهة ضد الصحفيين الموالين للحكومة من خلال 'قائمة العار' التي نشرت على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي 

ويشير التقرير أيضاً إلى أن الحكومة البحرينية أوقفت بعض إجراءاتها القمعية. فعلى سبيل المثال، وخلال الانتفاضة، تم اعتقال العديد من الكوادر الطبية الذين زُعم أنهم سيطروا على مجمّع السلمانية الطبي وحولوه الى مركز قيادة للمحتجين. لكن ومنذ الصيف الماضي تم الإفراج عن جميع العاملين في المجال الطبي والعديد من السجناء السياسيين الآخرين (ولكن لم يفرج عن زعماء المعارضة الرئيسيين المعتقلين منذ بدء الحملة في منتصف شهر آذار/مارس). كما تم إعادة كثير من موظفي القطاع العام الذين تم فصلهم إلى عملهم. إلاّ أن ذلك لم يشمل أولئك الذين يعملون في مؤسسات القطاع الخاص، مثل شركة طيران الخليج وباتلكو.ليس بإمكان الحكومة بالطبع أن تلغي أعمال التعذيب التي ارتكبتها قواتها الأمنية ولا أن تعيد الذين قتلوا إلى الحياة. لقد بدأت بعض التحقيقات، وسنرى من سيعاقَب على الجرائم التي يشير إليها تقرير حقوق الإنسان. في هذه الأثناء لا تزال قوات درع الجزيرة التابعة لدول مجلس التعاون الخليجي في البحرين لحماية المنشآت الاستراتيجية مما يمكّن القوات البحرينية من التفرغ لفرض النظام الداخلي. وبذلك فإن هذه القوات الأجنبية تقوم بتوفير غطاء أمني لنظام ينتابه الذعر. ولكن حتى لو كان بالإمكان محاسبة المسؤولين على عمليات القتل والتعذيب، فلن يكون لذلك تأثير يذكر على تسوية الأزمة الاجتماعية والسياسية التي أشعلت الاحتجاجات في المقام الأول. فالنظام الانتخابي المصمم منذ فترة طويلة بحيث لا يتمكن الشيعة الذين يشكلون الأغلبية الديموغرافية في البلاد من الهيمنة على البرلمان، في حين يشجع النظام انضمام السنة، وكثير منهم من جنوب آسيا والأردن وغيرهم من العرب إلى صفوف قوات الأمن والاستيلاء على فرص العمل في القطاع العام على حساب الشيعة

وعلى الرغم من أنه راهن على سمعته كمصلح بعد وقت قصير من وصوله الى السلطة في عام 1999، لم يقم الملك حمد بن عيسى بعمل شيء إزاء ذلك. فلا هو ولا ابنه، ولي العهد الذي قاد الجهود الرامية إلى الحوار مع المعارضة ، تمكنّا من التغلب على موقف رئيس الوزراء غير المنتخب خليفة بن سلمان آل خليفة الأكثر تشددا في المملكة والذي تجاوزت مدة توليه لمنصب رئيس الوزراء فترة ولاية الملك، قام خلالها بمعارضة أي تسوية مع جماعة المعارضة الرئيسية التي يهيمن عليها الشيعة 'الوفاق'، والتي من شأنها نزع فتيل التوتر
 
وكما قال توبي جونز، أحد أكبر الخبراء في الشوؤن البحرينية، فإن البحرين بحاجة لشيء يغير قواعد اللعبة وتقرير بسيوني ليس هو ذلك الشيء. قد تساعد معاقبة أفراد قوات الأمن الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان في استعادة القليل من الثقة الشعبية في النظام الملكي. ولكنها لن تعال الانقسامات التي تطغى على البلاد بأسرها: بين أعضاء النظام نفسه، وبين السنة والشيعة، أو حتى بين المتظاهرين أنفسهم (كسكان قرية عالي الذين نادوا بإسقاط النظام الملكي برمته)، وجماعات المعارضة المرخص لها مثل جمعية الوفاق التي كانت فيما مضى على استعداد للعمل مع ولي العهد على الخطوط العريضة لعملية الإصلاح. انهارت آخر محاولة لعقد مثل هذه المحادثات بينهما في منتصف شهر آذار/مارس بينما كانت الدبابات السعودية تتوغل في الجزيرة لدعم الحكومة. واليوم بات ولي العهد مهمشاً لا يظهر إلا أثناء زياراته إلى واشنطن أو لندن، في حين تنخرط 'الوفاق' في سياسة الشارع ما دام النظام لا يظهر أي رغبة في الدخول في محادثات جدية . تأخر الإصلاح أكثر مما ينبغي، ولا أحد يعرف كيفية الخروج من المأزق. يمكن لإدارة أوباما أن تزيد من ضغوطها على النظام لضمان تطبيق توصيات بسيوني وزيادة المشاركة السياسية وإقامة حكومة تمثيلية، خاصة أن للبيت الأبيض بعض النفوذ الذي يمكنه استخدامه كصفقة بيع المعدات العسكرية إلى البحرين بقيمة 53 مليون دولار المعلقة في الوقت الراهن. والأسطول الخامس الذي يمكن المحاججة أن وجوده في البحرين أكثر أهمية بالنسبة للنظام من أهميته للولايات المتحدة نفسها، واتفاق للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والبحرين ساري المفعول منذ عام 2006 والذي يمكن تعليقه أيضاً
 
إلا أنه من غير المرحج أن تتخذ الولايات المتحدة أي إجراءات جذرية من هذا القبيل ما لم يشن النظام حملة قمع أخرى واسعة النطاق ضد المتظاهرين. وبالفعل فإذا اندلعت الاحتجاجات الحاشدة مجدداً في وسط المدينة (على سبيل المثال، بسبب ازدياد عدد الوفيات جراء ما ترتكبه قوات الأمن في قرى شيعية كقرية عالي)، ولجأ النظام إلى القمع العنيف مجدداً، فعندئذ قد لا يكون قادراً على الإبقاء على الوضع الراهن المتزعزع. وحتى مع استمرار الدعم من حلفائها في الخليج، فإن البحرين ستواجه انتقادات من المجتمع الدولي الذي سيدرك أن حكامها لا يشعرون بالندم ومن غير الممكن إصلاحهم وبالتالي لا يمكن إنقاذهم. يصعب على المرء التنبؤ بما سيحصل بعد ذلك، ولكن ليس ثمة شك في أن المأزق السياسي والاستقطاب الطائفي اللذان تمر بهما البحرين سيتردد صداهما في بلدان مجاورة ذات مزيــج طائفي متفجر مماثل كسورية ولبنان والعراق، وكذلك في الدول المجاورة في الخليج. وبالنسبة للبحرين نفسها، فمهما كانــت الطريقة التي سيأتي فيها التغيير فإنه لن يأتي بسهولة كما أشار التقرير الذي تمكنت لجنة بسيوني من كتابته بعناية فائقة ولن يكـــون من دون المزيد من المعاناة والألم

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.