دوائر مغلقة: انتخابات 2024 الإقصائية في إيران
دوائر مغلقة: انتخابات 2024 الإقصائية في إيران
Iran hero
Ayatollah Ali Khamenei, the Supreme Leader of the Islamic Republic of Iran, votes in Iran's Parliamentary and Assembly of Experts elections, March 1, 2024. Khamenei.ir
Commentary / Middle East & North Africa 14 minutes

دوائر مغلقة: انتخابات 2024 الإقصائية في إيران

كان الإقبال على الانتخابات الوطنية في إيران متدنياً تاريخياً، وهذه ثالث انتخابات على التوالي يمتنع فيها معظم الناس عن المشاركة. بموازاة ذلك، أحكم المحافظون قبضتهم على مؤسسات الجمهورية الإسلامية. تُبرز هاتان النزعتان معاً الفجوة المتنامية بين الدولة والمجتمع. 

في آذار/مارس، أجرت إيران انتخاباتها البرلمانية الثانية عشرة منذ ثورة عام 1979 وكذلك انتخاباتها السادسة لمجلس خبراء القيادة، وهي الهيئة المكونة من رجال دين والمكلفة رسمياً باختيار القائد الأعلى القادم. تشير النتائج الرسمية إلى أن معدل المشاركة في الانتخابات بلغ 41 بالمئة، وهو أدنى معدل مشاركة تاريخياً في الانتخابات التشريعية وثالث دورة انتخابية على التوالي تمتنع فيها أغلبية الناخبين عن المشاركة – في إشارة إلى إحباط واسع الانتشار حيال النظام والشك في إمكانية حدوث تغيير سياسي من خلال صندوق الاقتراع. جرت الانتخابات على خلفية تحديات اقتصادية، وأمنية، وسياسية واجتماعية حادة، إضافة إلى أسئلة متزايدة بشأن الشخصية التي ستخلف القائد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 84 عاماً. بعد نحو ثلاث سنوات من تعزيز المحافظين – وهم الملتزمون بالأيديولوجيا المحورية للجمهورية الإسلامية – سيطرتهم على جميع فروع الحكومة، اشتدت حدة الاقتتال داخل صفوفهم. وكذلك تفاقم الاستياء العام الذي تجلَّى في جولات متكررة من الاضطرابات الجماهيرية، وكان أحدثها مظاهرة "المرأة، الحياة، الحرية" التي خرجت في أيلول/سبتمبر 2022 احتجاجاً على وفاة الشابة مهسا أميني خلال احتجازها لدى "شرطة الأخلاق". قمعت الدولة بعنف الاحتجاجات التي هزت البلاد على مدى أشهر.

يؤكد الاستياء المتنامي في أوساط السكان ومحاولات النظام الواضحة تعميق الهيمنة السياسية للمحافظين، اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع. وإذا استمرت هذه الفجوة بالاتساع، فإن من شأنها أن تعرض استقرار البلاد للخطر. لكن بالنسبة للقيادة الإيرانية، فإن الضرورة القصوى تتمثل في تعزيز قوة الامتثال الأيديولوجي والسيطرة السياسية في القمة، حتى على حساب خسارة المزيد من شرعيتها لدى القواعد.

تشكيل البرلمان الثاني عشر

لقد كانت الانتخابات الإيرانية دائماً مضبوطة على نحو صارم. لكن تمثلت النزعة منذ عام 2020 في التضييق المتزايد على التعبير السياسي، وتراجع نسبة المشاركة، ما يؤدي بالنتيجة إلى انتخابات غير تنافسية إلى حد كبير ونتائج متوقعة لصالح المحافظين. ففي الانتخابات البرلمانية لعام 2020 والانتخابات الرئاسية لعام 2021 التي أوصلت إبراهيم رئيسي إلى المنصب، حظر مجلس صيانة الدستور، وهي هيئة إشرافية غير منتخبة، المرشحين الذين كان من شأنهم أن يشكلوا تهديداً لفوز المحافظين. شهدت هذه الانتخابات أيضاً معدلات مشاركة متدنية تاريخياً. لقد سمحت هذه التطورات للمحافظين بإحكام قبضتهم على البرلمان، أو المجلس، والسلطة التنفيذية، الأمر الذي يمنحهم السيطرة على جميع أدوات السلطة بالنظر إلى أن الجهاز القضائي، الذي يُعيَّن رئيسه من قبل آية الله خامنئي، كان أصلاً في يدهم.

خلال الاستعدادات لانتخابات عام 2024، كان هناك أصلاً إشارات واضحة على أن المشاركة ستكون، مرة أخرى، متدنية وأن النظام سيجري جولة أخرى من الانتخابات غير التنافسية لترسيخ هيمنة المحافظين، الأمر الذي يعكس نفوذاً يزداد عمقاً للعناصر الأكثر تشدداً أيديولوجياً. في تموز/يوليو 2023، أضاف تعديل على قانون الانتخابات البرلمانية طبقات جديدة إلى عملية تقييم المرشحين، بما في ذلك توسيع سلطة مجلس صيانة الدستور المشار إليه أعلاه للتحكم بنتيجة الانتخابات الوطنية. الأمر الأبرز هو أن هذا التغيير منح المجلس سلطة نزع أهلية السياسيين ليس قبل الانتخابات فحسب بل أيضاً بعد أن يكون الناخبون قد انتخبوهم. أدان منتقدو التعديل، بمن فيهم جبهة الإصلاح، التي تضم أكثر من 30 فصيلاً إصلاحياً، هذا التحرك على أنه تلاعب يرجح كفة ساحة التنافس لصالح المحافظين. وفي خروج على تقاليدها، امتنعت الجبهة عن إصدار بيان يشجع أعضاءها وداعميها على التسجيل كمرشحين للانتخابات البرلمانية. بالنظر إلى توقعهم حدوث انتخابات غير منصفة فإن كثيراً من الشخصيات الإصلاحية، التي تراجعت حظوظها في السنوات الأخيرة، لم تسجل ترشيحها أصلاً.

بدا من المؤكد [أن الإقبال على الانتخابات العامة] سيتراجع بالنظر إلى الجروح المفتوحة الناجمة عن احتجاجات عام 2022 التي قُمعت بوحشية والأحوال الاقتصادية المتردية باستمرار.

أدى النهج الإقصائي الأكثر إحكاماً الذي اتبعه النظام بشأن الانتخابات إلى تقليص آفاق حدوث مشاركة واسعة، والتي بدا من المؤكد أنها ستتراجع بالنظر إلى الجروح المفتوحة الناجمة عن احتجاجات عام 2022 التي قُمعت بوحشية، بالإضافة إلى الأحوال الاقتصادية المتردية باستمرار. توقعت البيانات المستمدة من استطلاعات رأي أجرتها الدولة، والتي سُربت في عام 2023، ألَّا يتجاوز معدل المشاركة 30 بالمئة. لقد وصلت اللامبالاة وخيبة الأمل إلى حد أن فكرة التسجيل للمشاركة في الانتخابات يمكن أن تثير ردود فعل سلبية.

كانت تتجاذب القيادة قوتان متعاكستان تتمثلان بالرغبة في المحافظة على واجهة الشرعية الانتخابية، من جهة، وتطهير النظام حتى من منتقديه الموالين، من جهة أخرى. لذلك شجعت القيادة الناس على التسجيل، لكن في الوقت نفسه شددت إجراءات تقييم المرشحين. على الورق، بدت المنافسة مثيرة للإعجاب على المستوى الكمي. فعندما بدأت حملة الانتخابات البرلمانية في آب/أغسطس 2023، كان نحو 49,000 شخص قد سجلوا مسبقاً للمشاركة – وهو رقم أعلى بثلاث مرات تقريباً مما كان عليه في عام 2020. وتمثل جزء من السبب في إجراءات جديدة تمثلت في حملة رسائل نصية أطلقتها وزارة الداخلية تدعو فيها الناس إلى التسجيل وإطلاق عملية تسجيل مستمرة على الإنترنت. أكمل نحو 25,000 مرشح عمليات تسجيلهم بعد أن كانت السلطات قد تحققت من معلوماتهم الشخصية. لاحقاً، وافقت وزارة الداخلية ومجلس صيانة الدستور على أهلية نحو 15,200 مرشح – مرة أخرى ثلاثة أضعاف العدد الذي سُجل لانتخابات عام 2020 وأكبر عدد في تاريخ إيران بعد الثورة. لكن، في هذه الحالة، لم يترجَم الكم إلى نوع، بالنظر إلى أن معظم هؤلاء المرشحين لم يكونوا شخصيات معروفة.

لم يكن مفاجئاً أن منتقدي النظام بدؤوا يدعون إلى تجاهل الانتخابات. على سبيل المثال، أصدرت نرجس محمدي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام بياناً من سجن إيفين في طهران تحث فيه الناس "على إعلان عدم شرعية الجمهورية الإسلامية" بمقاطعة الانتخابات، وهي خطوة وصفتها بأنها "ضرورة سياسية وواجب أخلاقي". في ذلك المناخ المشحون، قدَّر كثير من السياسيين، بمن فيهم مسؤولون سابقون، أن مشاركتهم ستعد مصادقة على الخدعة الانتخابية.

أعلنت جبهة الإصلاح ... أنها لن تصادق على أي مرشحين للمناصب.

أعلنت جبهة الإصلاح، التي تراجعت مصداقيتها بعد سنوات من التشجيع على المشاركة في الانتخابات رغم الطبيعة غير الحرة وغير النزيهة للانتخابات الإيرانية، فقط لتشهد قيام المحافظين بخنق أي احتمال للإصلاح، أعلنت، على عكس ما فعلت في عام 2020، أنها لن تصادق على أي مرشحين للمناصب، رغم أنها لم تصل إلى حد الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات. اعتقد معظم سياسيي الجبهة أنهم لن يستطيعوا إقناع الناس الذين فقدوا الأمل بصندوق الانتخابات بالتصويت لهم. أخبر عضو رفيع المستوى في الجبهة مجموعة الأزمات أنه "إذا كان المجتمع ما يزال لديه أي ثقة فينا ... عندها يمكن أن نشارك في الانتخابات، ولو بمرشحين وكلاء لا يرتبطون تنظيمياً بنا". باختيار الامتناع عن المشاركة، كانوا يهدفون إلى الإسهام في خفض معدلات المشاركة إلى الحد الأدنى، وإظهار التضامن مع المواطنين المحبطين، وفي الوقت نفسه يأملون، ولو بشكل غير مقنع، أن تدرك الحكومة ضرورة مراجعة نهجها في الحكم.

إضافة إلى المقاطعين وغير المشاركين تكتيكياً، هناك شريحة أخرى تبحث عن طريقة للتعبير عن معارضتها للنظام. تكونت هذه المجموعة من أقلية من الإصلاحيين، إضافة إلى بعض الوسطيين، الذين يقفون في المشهد الفصائلي المتحول في إيران بين الإصلاحيين والمحافظين. سعى هؤلاء إلى تشتيت قوة المتشددين عبر انتخاب بضعة برلمانيين على الأقل ممن يمكن أن يعبِّروا عن المطالب الشعبية – أي كتلة احتجاجية تعمل ضمن معايير النظام. صادقت هذه الفصائل على 165 مرشحاً، وحصلت على دعم من شخصيات مثل الرئيس السابق حسن روحاني (وهو نفسه وسطي). حث روحاني الناس على التخلي عن نزعة عدم المشاركة والتصويت لمرشحين مستائين من الوضع الراهن. وقال روحاني في كانون الثاني/يناير: "هذه أول مرة أرى فيها أن الأقلية الحاكمة وأغلبية من الجمهور تريدان الأمر نفسه. فالأقلية الحاكمة تريد انتخابات لا يخرج فيها أحد إلى صناديق الاقتراع. وأغلبية الناس لا تريد الإدلاء بأصواتها".

لكن في النهاية، فإن لا الإصلاحيين ولا المعارضة السياسية الأخرى كانوا في موقع يمكنهم من إظهار تحدٍ ذي معنى للمعسكر المحافظ. ووجد الأخير، نفسه، مستنزَفاً في معارك داخلية لا خارجية. وتمثل خط الصدع الرئيسي في التنافس بين المؤسسة المحافظة والمتشددين؛ حيث إن المتشددين يتبنون، حتى بمعايير النظام، آراءً أيديولوجية حادة في القضايا الاجتماعية، والثقافية والسياسة الخارجية. وفي بعض الحالات، شن سياسيون محافظون هجمات شخصية جداً على بعضهم بعضاً، الأمر الذي نتج عنه ظهور عدد كبير من قوائم المرشحين في عدة دوائر فيها عدد كبير من السكان. نظمت ثلاثة فصائل رئيسية حملات انتخابية منفصلة: مجلس الائتلاف، ومعظم أعضائه من التكنوقراط وحلفاء رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف؛ ومجلس الوحدة، الذي يمثل المحافظين التقليديين من الحرس القديم؛ ومجموعات متشددة، وبشكل رئيسي جبهة الصمود.

نتائج الانتخابات

في حين أن بعض نتائج الانتخابات البرلمانية معلقة تقنياً بانتظار دورة ثانية، فإن الصورة الكبرى كانت واضحة حتى قبل الإدلاء بالأصوات؛ أي ليس اتخاذ المحافظين إجراءات ضبط محكم فحسب، بل نزعة متزايدة نحو التشدد. ومن ثم فإن مركز السياسة الإيرانية سينتقل أكثر إلى اليمين – وهو نمط يتكرر منذ نحو عقدين من الزمن. على وجه الإجمال، انتُخب 245 مرشحاً، مع الحاجة إلى جولات ثانية لتحديد مصير 45 مقعداً آخر في 15 محافظة، بما فيها طهران، حيث لم يتجاوز أي من المرشحين عتبة الـ 20 بالمئة من الأصوات الصالحة. ويبدو أن نحو 40 مرشحاً صادقت على ترشيحهم فصائل إصلاحية ووسطية فازوا بمقاعد، رغم أنه لم يتبين بعد ما إذا كانوا يستطيعون التحالف لتشكيل كتلة أقلية فعالة.

رغم جهود النظام لإقناع الناخبين بالمشاركة – ورغم إدعاءه النجاح في تحقيق ذلك الهدف – فإن الأرقام تظهر صورة قاتمة. استمرت المشاركة بالتراجع إلى العتبة الدنيا التي سجلت بعد عام 1979 وهي 41 بالمئة، طبقاً للإحصاءات الرسمية (التي يعتقد البعض أنها مبالغ بها)، أي أدنى بـ 1.5 بالمئة مما كانت عليه في عام 2020؛ مع تسجيل بضع محافظات معدل إقبال أقل مما كان عليه قبل أربع سنوات. وكما في الماضي، كان الإقبال أفضل في المناطق النائية، حيث ينزع الناخبون إلى اختيار سياسيين يعتقدون أنهم سيناصرون في العاصمة الاستثمار في التنمية المحلية. كانت أعلى معدلات المشاركة – التي بلغت 65.74 بالمئة - في كهكيلويه وبوير أحمد، وهي محافظة في جنوب غرب البلاد تقطنهما أقلية اللور العرقية الكبيرة. لكن حتى هناك انخفضت من 70.66 بالمئة في عام 2020. على النقيض من ذلك، فمحافظات طهران، والبُرز وأصفهان ذات الأعداد المرتفعة من السكان، شهدت بعض أدنى المعدلات، التي تراوحت بين 26 و37 بالمئة. 

في حين حصل المحافظون على نحو نصف المقاعد الثلاثين، فإن المقاعد المتبقية ظلت فارغة بسبب عدم تجاوز عتبة الحد الأدنى البالغة 20 بالمئة من الأصوات الصالحة.

أما في مدينة طهران، التي تشكل أنماط الاقتراع فيها مقياساً سياسياً، لم تعلَن معدلات المشاركة رسمياً بعد. لكن النتائج الأولية أشارت إلى أنه في حين حصل المحافظون على نحو نصف المقاعد الثلاثين، فإن المقاعد المتبقية ظلت فارغة بسبب عدم تجاوز عتبة الحد الأدنى البالغة 20 بالمئة من الأصوات الصالحة. لم يفز أي إصلاحي أو وسطي، ولا يوجد أي من هؤلاء بين المرشحين الـ 32 الذين يتنافسون على المقاعد الستة عشر المتبقية في الجولة الثانية. وخرج السيد محمد نافبيان من جبهة الصمود العقائدية فائزاً أول في طهران – وهو فوز رسمي يجعله مرشحاً محتملاً لمنصب رئيس المجلس، الذي حصل رئيسه الحالي المحاصر، قاليباف على المرتبة الرابعة من حيث عدد الأصوات. لكن جدير بالملاحظة، أن عدد الأصوات التي حصل عليها نافبيان كانت أقل بنحو 30 بالمئة من ما حصل عليه المرشح الذي جاء في المرتبة الثالثة عشرة في انتخابات عام 2020 وأقل من أي مرشح آخر جاء في المرتبة الأولى في طهران على مدى الجولات الانتخابية الإحدى عشرة الأخيرة.

من شأن المنافسة المحدودة جداً أن تفرز نتيجة واحدة وهي فوز المحافظين. في هذه الظروف، لم يكن تدني الإقبال أيضاً مفاجئاً. لكن ثمة تطوران مهمان لافتان. الأول هو أن حتى بعض المعارضة الموالية للنظام يبدو أنها فقدت الأمل بأن انتخابات الجمهورية الإسلامية يمكن أن تحقق مستقبلاً أفضل. كان أحد هؤلاء الأشخاص الذين امتنعوا عن التصويت الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي، الذي كان يدعو دائماً إلى استغلال أي فرصة، مهما كانت ضئيلة، لمتابعة مسار الإصلاحات عبر صندوق الاقتراع. قال خاتمي: "هذه المرة، قررت أنني إذا لم أكن أستطيع أن أفعل شيئاً للناس، فإنني سأقف متضامناً مع جموع الأفراد الساخطين". ثانياً، حتى لو أخذ المرء معدلات المشاركة المعلنة على ظاهرها، فإنها لا تكشف إلا عن جزء فقط من حكاية جمهور الناخبين المستائين بعمق. فللجولة الثالثة من الانتخابات الوطنية المتعاقبة، وطبقاً للأرقام الرسمية، فإن 8 بالمئة (ما يعادل نحو 3 بالمئة من الناخبين الذين يحق لهم التصويت) وضعوا بطاقات انتخابية غير صالحة، فيما يفسره البعض على أنه فعل احتجاجي متعمد.

بالنسبة لنظام ولد من رحم ثورة شعبية وطالما أعلن أن مشاركة الناخبين تشكل إحدى معايير شرعيته، فإن استمرار التراجع بالمشاركة في الانتخابات ينبغي أن يدق نواقيس الخطر حول مدى الاستياء الشعبي. لكن النظام احتفل بنتائج الانتخابات على أنها نصر على المعارضة في الداخل والخارج، مدعياً أن الانتخابات كانت ناجحة لأن المشاركة لم تكن أقل بكثير مما كانت عليه في عام 2020. آية الله خامنئي، الذي سخر مرة من معدلات المشاركة البالغة 40 بالمئة في بلدان أخرى على أنها علامة "مخزية" على انعدام الثقة الشعبية بالحكومة، وصف معدل المشاركة في عام 2024 بأنه "تحرك ملحمي بارز"، أحبط المؤامرات الخارجية المزعومة ضد المشاركة. إن هذه القشرة الخادعة للفوز الذي ادعته المؤسسة الحاكمة لا تتغافل فحسب عن الافتقار المتزايد للدعم من نحو 60 بالمئة من الناخبين، بل تخاطر أيضاً بترسيخ نزعة الحكومة إلى التشبث بموقفها في وجه التحديات المتنامية بدلاً من معالجة المظالم الرئيسية. عكس هذا الرضا عن الذات رفض النظام سابقاً لاحتجاجات عام 2022 بصفتها نتيجة للمؤامرات الخارجية، وليس على أنها انعكاس لاستياء شعبي عميق ونشط – ما يشكل نمطاً خطيراً من شأنه في النهاية أن يقوض استقرار البلاد.

مجلس خبراء القيادة

في الوقت نفسه الذي صوَّت فيه الإيرانيون للبرلمان الثاني عشر، اختاروا أيضاً من بين المرشحين أعضاء لمجلس خبراء القيادة، وهي مؤسسة تمارس السلطة في تحديد الدور الأكثر نفوذاً في النظام، وهو دور القائد الأعلى. مع وجود 88 مقعداً يتنافس عليها المرشحون، فإن المجلس الذي يتكون حصرياً من فقهاء (خبراء في الفقه الإسلامي الشيعي)، أصبح تحت الأضواء على نحو متزايد بالنظر إلى تقدم القائد الأعلى في العمر، وبالتالي بروز مسألة خلافته. لقد مارس المجلس، التي ينعقد في ولايات تدوم ثمان سنوات، تاريخياً سلطته في تعيين القائد فحسب، حيث ظلت مسؤولياته الأخرى التي يتمتع بها بموجب الدستور، مثل إقالة القائد أو الإشراف عليه، دون اختبار.

لم تكد الانتخابات تشهد تنافساً يذكر في نحو نصف المحافظات الإيرانية.

شهدت انتخابات المجلس لعام 2024 تراجعاً ملحوظاً في مشاركة رجال الدين، حيث سجل 501 فقيهاً فحسب ترشيحهم للمشاركة – ما يشكل انخفاضاً حاداً من 801 مرشحاً في الدورة السابقة. كما ضيَّق مجلس صيانة الدستور ميدان المنافسة أكثر عندما وافق على 144 متنافساً في عملية تدقيق صارمة للترشيحات. ومن ثم، لم تكد الانتخابات تشهد تنافساً يذكر في نحو نصف المحافظات الإيرانية، حيث كان عدد المرشحين أقل من ضعف عدد المقاعد. في إحدى المحافظات، على سبيل المثال، تنافس ستة أشخاص فقط على خمسة مقاعد. كان من بين الشخصيات البارزة التي حُظرت عليها المشاركة الرئيس السابق روحاني، الذي كان عضواً في المجلس لثلاث دورات. أشار استبعاد روحاني إلى أن القيادة المحافظة للبلاد ليس لديها الرغبة في الاستماع حتى إلى وجهات نظر تحمل أدنى درجات المعارضة عندما يحين وقت اتخاذ القرار بشأن من سيخلف آية الله خامنئي وماهية ما سيحدث بعد انتهاء ولايته. لكن حتى مثل تلك الإجراءات قد لا تمنع حدوث انقسامات داخل المعسكر المحافظ عندما يحين وقت تحديد خليفته.

تشير النتائج إلى أن 45 بالمئة من تشكيلة المجلس قد تغيرت، وأن معظم الفقهاء الجدد مرتبطون على نحو وثيق بآية الله خامنئي. جدير بالملاحظة أن محمد صادق آملي–لاريجاني، كبير القضاة السابق والرئيس الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام، وهي هيئة تقدم المشورة للقائد الأعلى، الذي كان قد انتقد الممارسات الإقصائية لمجلس صيانة الدستور، أخفق في الحصول على ما يكفي من الأصوات للاحتفاظ بمقعده. كان لاريجاني يُعد على نطاق واسع خليفة محتملاً لخامنئي. ومن ثم، فإن حتى الحلقة التي تضم الأشخاص الموثوقين جداً في النظام تستمر في التقلص.

الصورة الكبرى

تمثل اندفاعة المحافظين للهيمنة على جميع فروع الحكومة في الجمهورية الإسلامية محاولة لـ "التطهير" السياسي، أي إزالة العناصر المعتدلة من الحكم لإيجاد فضاء أوسع للجيل القادم من معتنقي الرؤية الثورية للعالم. ويعتقد أنصار هذه النزعة أنه ينبغي تطهير الحكومة، والجيش والمؤسسات الأخرى من أولئك الذين يعدّونهم غير موالين أو مترددين أيديولوجياً. وهذه مشاعر قديمة، إذ إن مختلف الهيئات الإشرافية مثل مجلس صيانة الدستور – الذي يراجع القوائم الانتخابية لحذف أولئك الذين يعتبرهم غير صالحين أيديولوجياً – تدخَّل منذ سنين لمنع تطور الجوانب الجمهورية للنظام. لكن يبدو أن هذه الجهود تتسارع، وباتت معايير تحديد من يُعد مقبولاً كمرشح في الانتخابات العامة أكثر تضييقاً، على مدى الأعوام الأربعة الماضية، مع اقتراب موعد خلافة آية الله خامنئي. على حد تعبير عالم الاجتماع الإيراني البارز عباس عبدي: "لقد تجاوزنا المراحل الأولى للتطهير، ووصلنا الآن إلى مرحلة التخصيب. والآن تدور أجهزة الطرد المركزي السياسية بسرعتها القصوى".

إن جمع السلطات في أيدي أكثر عناصر النظام محافظة يعد نذيراً سيئاً على قدرته على معالجة التحديات المتراكمة التي تواجه إيران. إذ ما تزال حالة الاقتصاد سيئة، رغم النمو المتواضع بعد ركود دام عقداً من الزمن. وتبدو الدبلوماسية التي من شأنها أن تساعده من خلال تأمين رفع جزئي للعقوبات الأميركية وغيرها، في حالة سبات، في الوقت الذي بات فيه الفساد وسوء الإدارة منتشران على نطاق واسع. إن انتقال الحكومة إلى بناء علاقات أقوى مع روسيا والصين لم يحقق بعد مزايا اقتصادية. ومع ارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 40 بالمئة على مدى السنوات الثلاث الماضية، فإن القوة الشرائية انخفضت على نحو كبير، مع عدم وجود احتمال للانتعاش في الأفق. لقد كانت قيمة العملة الوطنية متقلبة على نحو خاص؛ فمنذ بداية حكم رئيسي في عام 2021، ارتفع سعر الصرف من 250,000 ريال مقابل الدولار إلى أكثر من 600,000. وتسحق الأجهزة الأمنية المعارضة السلمية بقبضة حديدية، لكنها فشلت في صد الهجمات المتكررة التي تقوم بها دول وأطراف فاعلة من غير الدول. في المجال السياسي، وجد المعسكر المحافظ صعوبة كبيرة في سن التشريعات على نحو فعال، إذ أخفق في تمرير مشاريع قوانين رئيسية، بما في ذلك تلك التي تعزز الشفافية – وهو أحد الالتزامات الرئيسية للبرلمان الحادي عشر المنتهية ولايته. 

لقد فرضت الحكومة ... تفويضات ثقافية أكثر محافظة، في محاولة تتعارض مع نزوع مجتمع يميل نحو درجة أقل من التدين.

لقد فرضت الحكومة نفسها تفويضات ثقافية أكثر محافظة، في محاولة تتعارض مع نزوع مجتمع يميل نحو درجة أقل من التدين، كما ثبت في استطلاعات الرأي التي أجرتها الدولة. في صيف عام 2021، أصدر رئيسي قرارات تقضي بفرض قيود إضافية فيما يتعلق بملابس النساء، ما دفع "شرطة الأخلاق" إلى توجيه تحذيرات لعدد أكبر من النساء اللاتي رأى أفراد الشرطة أنهن يرتدين ثياباً غير محتشمة. وتجد هذه السياسات معارضة شعبية واسعة. وكان الغضب حيال هذه السياسات جزءاً من احتجاجات عام 2022، التي سرعان ما تبنت لهجة معادية للنظام على نحو أوسع. تشير استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع السكان إما غير مهتمين بتخلي النساء عن الحجاب أو يميلون إلى الاحتفاظ باعتراضاتهم لأنفسهم عندما يرون امرأة لا ترتدي حجاباً. أبرزت الحكومة نهجها التدخلي عندما سن البرلمان قانون تجديد شباب السكان ودعم الأسرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الذي يفرض قيوداً جديدة على الحقوق الإنجابية للنساء. في هذا المجال وغيره، تبدو قرارات الحكومة والمواقف الشعبية متنافرة على نحو متزايد. لقد دفع ميلها إلى قمع الإحباط الاجتماعي والسياسي بدلاً من معالجة أسبابه الجذرية الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى التحذير بأن النظام "يطيح بنفسه" عبر المضي بعيداً في سياساته التي لا تحظى بالشعبية بدلاً من إعادة النظر فيها.

تبدو آفاق تقدم الجمهورية الإسلامية قاتمة، وتتمثل في حكومة تشكلها أقلية تتقلص باستمرار، وتسعى إلى تحقيق أهداف أيديولوجية قصوى تتباين بعمق مع تطلعات أغلبية تزداد اتساعاً. في حين أن حكم الأقلية لا يشكل تهديداً وجودياً وشيكاً للنظام، من شبه المؤكد أنه سيضعفه على المدى الطويل. وينبئ هذا الافتراق باستمرار الفشل في معالجة التحديات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، ومن ثم تعميق أزمة الشرعية بالنسبة للجمهورية الإسلامية ومؤسساتها التمثيلية ظاهرياً. إذا كان الهدف هو التخلي عن الشرعية الشعبية لصالح الوحدة في قمة الهرم السياسي، فإن حتى ذاك قد يكون مشكوكاً بتحققه؛ إذ إن النزاعات الداخلية بين المحافظين لا تركز على الأيديولوجيا بل على الصراع على السلطة، ومن ثم فإنها ستعيق الجهود الرامية إلى توحيد القوى تحضيراً للانتقال الحتمي للقيادة. 

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.