المخاطر التي تنتظر عراق ما بعد داعش
المخاطر التي تنتظر عراق ما بعد داعش
After Iraq: How the U.S. Failed to Fully Learn the Lessons of a Disastrous Intervention
After Iraq: How the U.S. Failed to Fully Learn the Lessons of a Disastrous Intervention
Op-Ed / Middle East & North Africa 9 minutes

المخاطر التي تنتظر عراق ما بعد داعش

في كركوك، ثمة مخاطرة في أن تؤدي هزيمة المجموعة المتطرفة إلى إعادة إحياء الصراعات الإثنية والدينية القديمة – ما لم تنجح الشخصيات الأكثر حكمة في السيطرة على الوضع.

لم يكتفِ مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية الذين احتلوا قرية الشيخ برهان مزهر العاصي في شمال العراق بتفجير منزله وحسب بل إنهم دمروا أيضاً شواهد القبور التي نصبت فوق رفاة والديه في المقبرة المحلية.

أصبح عاصي، وهو عضو عربي يحظى بالاحترام في المجلس المحلي المنتخب في كركوك، الآن شخصاً مهجّراً في كركوك بعد أن استولى تنظيم الدولة الإسلامية على جزء كبير من المحافظة في حزيران/يونيو 2014. ما أضاف ملحاً على الجرح هو أن الرجل الذي قاد عملية تدمير ممتلكات الشيخ كان أحد أعضاء قبيلته، قبيلة العبيد.

لقد اتسع انتشار مثل تلك المحن خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. كما إنها تبرز أيضاً حقيقة لا تبعث على الارتياح وهي أنه في العراق، يُعدُّ تنظيم الدولة الإسلامية مشكلة محلية بشكل رئيسي. لا يضم الفرع العراقي في المنظمة المتطرفة سوى عدد محدود جداً من المقاتلين الأجانب فيما يعكس التحول الراديكالي لدى البعض في الطائفة السنّية في معارضته للنظام السياسي القائم.

لا يقتصر الضرر الناجم عن حوادث كذاك الذي حلَّ بعاصي على الصدفة وحسب، بل إن هذا الضرر يعيد تشكيل الهويات والولاءات في إحدى أكثر مناطق العراق تعدداً ثقافياً. كثيرون من العرب السنة أنفسهم الذين كانوا في الماضي يعارضون الاحتلال الأمريكي ويقاومون محاولات الهندسة الديمغرافية التي تقوم بها الأحزاب الكردية يجدون أنفسهم الآن "ضيوفاً" على نفس تلك الأحزاب. نظراً لتحوّلهم إلى مهجّرين، فإنهم أصبحوا أكثر قبولاً بالطموحات الكردية وباتوا يناشدون الولايات المتحدة للمساعدة في تحرير بيوتهم من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.

غير أن العديد من الأكراد يظلون متشككين بخصومهم العرب السنة السابقين، ويربطون بينهم وبين تنظيم الدولة الإسلامية ويحاولون استغلال تدهور حظوظهم في المرحلة الراهنة والضغط للحصول على مزايا في الصراعات الإثنية القائمة منذ أمد بعيد. وبالتالي فإنهم يخاطرون بتهيئة الظروف للجولة التالية من الصراع.

تتضح هذه الديناميكية على نحو خاص في كركوك، التي ادعت الحكومات المركزية والأحزاب السياسية الكردية حقها فيها وتصارعت عليها منذ عقود. حدد الدستور العراقي الذي صيغ بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 جملة من الإجراءات لتسوية الوضع المستقبلي لكركوك – ما إذا كانت ستصبح إقليماً مستقلاً أو سيتم التوصل إلى ترتيب سياسي آخر بشأنها – إلاّ أن بنود تلك الترتيبات لم تنفذ بعد. الأحزاب الكردية، التي شعرت بالإحباط بسبب عدم إحراز تقدم، مضت قُدماً وسيطرت تدريجياً على إدارة وأمن كركوك. مع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على المناطق ذات الأغلبية العربية السنّية في الجنوب والغرب في حزيران/يونيو 2014، عزز الأكراد سلطتهم في المدينة والمناطق ذات الأغلبية الكردية إلى شمالها وشرقها.

المنطقة التي تشكل حوالي 60% من محافظة كركوك والتي لا تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية تستضيف أكثر من 700,000 مهجّر. بعضهم هو في الأصل من المحافظة نفسها، لكن الأغلبية هم من محافظات ديالا، ونينوى، وصلاح الدين، والأنبار المجاورة. الأغلبية الساحقة من هؤلاء المهجرين هم من العرب السنة، الذين هُجروا من منازلهم وقراهم عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية عليها أو في المحاولات العنيفة التالية التي قامت بها قوات الحكومة والميليشيات المرتبطة بها لاستعادتها. في بعض الأحيان، يمنع الغياب العام للأمن هؤلاء الناس من العودة إلى منازلهم؛ وفي بعضها الآخر يفضل اللاعبون السياسيون – الميليشيات الشيعية أو البشمركة الكردية – ببساطة أن لا يعودوا.

أصبحت الحويجة، وهي مدينة سنّية بشكل رئيسي في المنطقة الداخلية الزراعية من المحافظة، بؤرة للصراعات المتقاطعة بين السنة والشيعة والعرب والأكراد عام 2013. حينذاك، انتفض السكان المحليون ضد ما اعتبروه اعتقالات عشوائية وإهمالاً متعمداً من قبل حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي. قوبلت تلك الاحتجاجات بالقمع، حيث قتل أكثر من 40 مدنياً خلال بضعة أيام من المواجهات العنيفة مع قوات الأمن، ما حوّل المدينة إلى رمز لجميع المشاكل التي ستسهل استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية عليها بعد عام.

اليوم، باتت مكاسب الدولة الإسلامية على الأرض تتحول إلى خسائر. ثمة حملة متصاعدة لتحرير الموصل والبلدات والقرى المحيطة بها في محافظة نينوى. غير أن الحويجة لا تزال في قبضة المجموعة المتطرفة، رغم أن المنطقة الخاضعة لسيطرتها في كركوك عُزلت عن معاقل التنظيم إلى الشمال وفي سورية. ونتيجة لذلك، يتعرض السكان الآن للتجويع لأنهم فقدوا شريان الحياة الذي يربطهم بالمناطق الأخرى التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية وخسروا التبادل التجاري المحدود الذي كانت تحققه.

ولذلك فإن سكان الحويجة ينتظرون بفارغ الصبر تحريرها. السؤال المهم هو: على يد من؟ لا يرغب الجيش العراقي بحرق أصابعه مرة أخرى في المدينة، وهو في الأصل ينتشر على منطقة أوسع من قدرته على السيطرة خصوصاً مع استعداده لاستعادة الموصل. وبالتالي فقد تُرك السكان المحليون وممثليهم السياسيين المنفيين مع الخيار غير المقبول المتمثل في الميلشيات: إما قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، والتي عُرفت بـ "تطهير" المناطق السنّية التي تمت استعادتها في جميع المناطق التي يقطنها الشيعة أيضاً، أو البشمركة الكردية، التي انخرطت أيضاً في ممارسات مشابهة ضد العرب.

لو خُيَّر سكان الحويجة، لما اختاروا أياً من هذين الطرفين. كانوا سيفضلون قوة تتكون من جماعتهم، من العرب السنة الذين يسكنون هذه المناطق. غير أن الميليشيات الأكثر قوة منعتهم من تأسيس قوة مسلحة، وبالتالي تراهم ينخرطون في حسابات يائسة. إذا دخلها الأكراد، فإن من المرجح أن يسعوا للانتقام لعمليات الإعدام الوحشية التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية بحق أفراد البشمركة الذين وقعوا في أسره وأن يقوموا بعمليات تخريب تكفي لردع السكان العرب المحليين عن المحاولة مرة ثانية لعرقلة الطموحات الكردية في محافظة كركوك. كما يخشى العرب السنة أن يسعى الأكراد إلى فصل المناطق العربية عن كركوك وأن يمنحوها لمحافظة صلاح الدين المجاورة، الواقعة تحت سيطرة الحكومة المركزية. يعارض العرب السنة في كركوك بشدة مثل هذه الخطوة، حيث إنها ستحرمهم من الوصول إلى الأسواق التقليدية لمنتجاتهم الزراعية وإلى الثروات النفطية لكركوك.

يأمل بعض سكان الحويجة أن يحالفهم الحظ وأن يأتي التحرير على أيدي قوات الحشد الشعبي الشيعية، لأن تلك الميليشيات غير مهتمة بالحلول محل السكان السنة بشكل دائم في منطقة ليس فيها أي سكان شيعة. علاوة على ذلك، فإنهم يراهنون على أن مدينتهم لا تقع على الطريق التي تُتهم المجموعات الموالية لإيران بالسعي لفتحها بين الحدود الإيرانية والسورية. إلاّ أن أي عمل عسكري تشارك فيه قوات الحشد الشعبي لن يحظى بالدعم الجوي للولايات المتحدة، وبالتالي فإن المعركة مع تنظيم الدولة الإسلامية قد تطول وقد ينجم عنها ضرر كبير يلحق بالمدينة. يخشى سكان المدينة أن الدمار قادم بكل الأحوال.

بالطبع، فإن سكان الحويجة وسكان المناطق الأخرى التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية لا يقررون من سيستعيد مدنهم. ستقرر أطراف أخرى نيابة عنهم. حتى لو مارست البشمركة وقوات الحشد الشعبي أقصى درجات ضبط النفس، آخذة في الاعتبار الانتقادات الدولية المحتملة والمحاكمات المستقبلية لجرائم الحرب (وعلى النقيض من ممارسات سابقة)، فإن لدى العرب السنة في كركوك ما يبرر مخاوفهم من المصير الذي سيحل بهم في اليوم التالي.

قال لي عاصي: "نحن لم نكن جزءاً من النظام السابق، ولا ننتمي إلى هذه الشبكة الإرهابية. رغم ذلك، وقبل 10 حزيران/يونيو [اليوم الذي سقطت فيه الموصل في عام 2014 بيد تنظيم الدولة الإسلامية] كنا نُتهم بأننا صداميون وبعد ذلك بتنا نتهم بأننا أعضاء في تنظيم الدولة الإسلامية."

الحقيقة هي أنه ومعظم أبناء بلده ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك. إلاّ أن الاتهامات التصقت بهم، وفيها بعض المنطق، حيث إن كثيرين في قيادة تنظيم الدولة الإسلامية وكوادره كانوا ضباطاً في قوات أمن النظام السابق.

إن كيفية معاملة المنتصرين للخاسرين هي التي ستشكل المعارك القادمة. نظراً إلى عدم وجود استراتيجية عسكرية شاملة في العراق توجه كيفية استعادة المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، أو من قبل من، فإن كل طرف في الحرب التي تُشن ضد تنظيم الدولة الإسلامية له أهدافه الخاصة. إن حقيقة أن هذه الأهداف تتكون في كثير من الأحيان من فرض عقاب جماعي على العرب السنة، وفي بعض الأحيان بوسائل وحشية، يشكل احتمالاً مرعباً. إن اتهام طائفة كاملة بأنها تعتنق نفس الأيديولوجيا القاتلة وغير المتسامحة لعدد قليل من أفرادها يعني أن من المؤكد أن العدد القليل من المتطرفين سيصبح كبيراً. ونتيجة لذلك، يبدو مستقبل مجموعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة مشرقاً، رغم أي خسائر على الأرض يمكن أن تمنى بها في القريب العاجل، أو حتى بسبب هذه الخسائر، حيث ثبت أن التزامها بالحكم عندما تسيطر على الأرض يشكل عبئاً لا تؤهلها إمكاناتها لتحمّله.

إذا كان ثمة رغبة في أن تؤدي هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية إلى تحقيق تقدم حقيقي، بدلاً من مجرد استقدام المرحلة التالية من الصراع، فإن على العراق أن يؤسس قوات محلية لتوطيد الاستقرار في المناطق العربية حديثة التحرير. إن الحجة القائلة بأن أفراد مثل تلك القوة يمكن أن يتحولوا وينضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية لا تصمد أمام منطق، نظراً إلى أنه في المحصلة ثمة تهديد حقيقي في أن ينضم جميع السكان إلى مثل تلك المجموعات المتطرفة بينما يتصاعد غضبهم تحت حكم قوات الحشد الشعبي أو البشمركة. هذا تماماً ما حدث عام 2014 عندما حاول الجيش العراقي الذي يهيمن عليه الشيعة، والذي يعتبره السكان المحليون قوة معادية تشكل رأس حربة لاحتلال "أجنبي"، السيطرة على سكان الموصل بدلاً من حمايتهم.

بالنظر إلى التنوع الذي تتسم به كركوك، فإن المحافظة على السلم سيكون دائماً أصعب من الانتصار في الحرب. تحاول المجموعات العديدة التي تتكون منها المحافظة أصلاً وبشكل يائس المحافظة على نسيج مجتمعها المشترك من التفكك على أيدي لاعبين خارجيين ذوي ذهنيات شوفينية وأهداف افتراسية.

لقد برز نجم الدين كريم، وهو جراح أعصاب متقاعد من ميريلاند انتخب محافظاً للمنطقة من قبل المجلس المحلي في كركوك عام 2011، بوصفه البطل غير المتوقع لعملية المحافظة على المجتمع متعدد الثقافات في كركوك. كريم عضو قديم في نفس الحركة الكردية التي سعت تقليدياً للحصول على كركوك للأكراد، مع وجود أقل عدد ممكن من العرب فيها. لكنه أخبرني بأن تجربته في حكم هذه المنطقة المعقدة على مدى السنوات الخمس الماضية علّمته بأن الأكراد لا يستطيعون ببساطة فرض إرادتهم على الآخرين. يعتقد كريم أن ثمة طريقة أفضل لتحديد ما إذا كان ينبغي لكركوك أن تصبح كردية بشكل رسمي بدلاً من ضم المحافظة بالقوة لإقليم كردستان من خلال استفتاء إشكالي، ما سيؤدي إلى حدوث استقطاب عميق في المجتمع بعد إجراء الاستفتاء. وقال لي إن كركوك "ينبغي أن تشكل إقليماً مستقلاً داخل العراق لفترة مؤقتة تتكون من 5 إلى 10 سنوات."

في نهاية تلك الفترة، يأمل كريم بأن يكون سكان كركوك قد حققوا درجة من الثقة المتبادلة. عندها سيُسمح لهم أن يختاروا بحرية ما إذا كانوا يريدون موطنهم تحت سيطرة بغداد، أو العاصمة الكردية أربيل، أو كإقليم مستقل يتمتع بمكانة وصلاحيات خاصة. علاوة على ذلك، فإنه قال إن الحويجة "ينبغي أن تصبح محافظة داخل إقليم كركوك، وأن يكون لها حكومة وموازنة محلية" – بعبارة أخرى، الاحتفاظ بعلاقاتها الإدارية والاقتصادية المهمة مع كركوك الخاضعة للسيطرة الكردية.

يقوم المحافظ بتعويم هذا الخيار مع معرفته الكاملة بأن كركوك، كإقليم مستقل، يمكن أن تستفيد في النهاية من الثروة التي تشكلها مواردها النفطية. في الوضع الراهن، فإن بغداد وأربيل حرمتا المحافظة من إيرادات النفط وذلك بعقدهما لصفقات مربحة من فوق رؤوس سكان كركوك. ما يشكل مفارقة إلى حد ما أن رئيس وزراء إقليم كردستان، نيشيرفان برزاني، يدعم محافظ كركوك في مسعاه. لكنه هو وكريم يصران على أن كركوك ينبغي أن تُعتبر، رمزياً على الأقل، "أرضاً كردستانية،" بنفس الطريقة التي يعتبر الأكراد المناطق الكردية الواقعة خارج العراق "كردستانية" أيضاً. إضافة إلى ذلك، فإن المحافظ يصر على أن أي ترتيب مستقبلي خاص لكركوك ينبغي أن يوافق عليه برلمان إقليم كردستان، ما يمكن أن يشكل عقبة كبيرة.

موقف كريم وضعه في حالة تعارض حاد مع حزبه، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي هدده أعضاءه الغاضبون بالطرد منه. إلاّ أن الاتحاد الوطني الكردستاني ضعيف، حيث فقد زعيمه، جلال طالباني، بسبب المرض، ويعاني من صراعات داخلية على السلطة. من ناحية أخرى، فإن محافظ كركوك يشعر، وهو محق في ذلك، بأنه يحظى بدعم السكان المحليين – بما في ذلك سكانه الأكراد، الذين ينظرون إلى الحكم الفاسد وغير الكفؤ للأحزاب الكردية في الإقليم المجاور بدرجة كبيرة من القلق.

ولذلك فإن اللحظة الراهنة هي اللحظة المناسبة. رغم أن الشرق الأوسط قد يبدو ميؤساً منه في بعض الأحيان، فإن لدى القادة الذين يتمتعون برؤية براغماتية فرصة لفتح طريق سلمي وشامل إلى الأمام.

هؤلاء القادة يستحقون دعم المجتمع الدولي، حيث إنهم يشكلون ضمانة بأن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية لا يشكل ببساطة بداية لمجموعة جديدة من الحروب الأثنية والدينية.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.