فهم السياسة الخارجية السعودية بعد إعادة معايرتها
فهم السياسة الخارجية السعودية بعد إعادة معايرتها
Iranian President Ebrahim Raisi meets with Saudi Arabia's Foreign Minister Prince Faisal bin Farhan Al Saud in Tehran, Iran, June 17, 2023. Saudi Press Agency / Handout
Commentary / Middle East & North Africa 14 minutes

فهم السياسة الخارجية السعودية بعد إعادة معايرتها

تتطلع السعودية وولي عهدها الطموح إلى عالم جديد تتمتع فيه المملكة بمكانة أكثر بروزاً. لكن ما لم تُجرِ المملكة مزيداً من التغييرات على الجبهتين الدبلوماسية والداخلية، من المرجح أن تواجه تطلعاتها العقبات.

 

تحاول السعودية، بنجاح متفاوت، إعادة صياغة موقعها على المسرح الدولي. إذ تريد المملكة، التي وصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليون دولار في عام 2022 للمرة الأولى، اقتصاداً يمكن أن يتماشى مع التحول العالمي للطاقة ومع سياسة خارجية أقل اعتماداً على الولايات المتحدة. تصوغ السياسات السعودية طموحاتُ قائدها بحكم الأمر الواقع، ولي العهد محمد بن سلمان، بشكل يمكّنه من إحكام قبضته على السلطة، وجعل البلاد أقل اعتماداً على صادرات النفط والغاز، وتحويل المملكة إلى قوة متوسطة مهمة – قوة تسعى إلى تحقيق مصالحها من خلال زيادة نفوذها الإقليمي والعالمي وتوسيع علاقاتها الخارجية. وفي سياق سعيها لتحقيق هذه الأهداف، تضع الرياض نفسها على نحو متزايد في مركز دبلوماسية وجهود وساطة مرتفعة الرهانات. لكن ما لم تُجرِ الرياض مزيداً من التغييرات، فإن جهودها الظاهرية الرامية إلى إعادة تشكيل نفسها من المرجح أن تصل إلى سقف محتوم وتقصّر عن تحقيق آمالها.

رؤية السعودية 2030

تتمثل إحدى طرق فهم كثير من التجديدات السياساتية الأخيرة في السعودية في النظر إليها من خلال رؤية السعودية 2030، وهي مبادرة ولي العهد التنموية الرائدة التي أطلقها عام 2016. أعلن محمد بن سلمان إستراتيجيته الجديدة مباشرة بعد وصول والده إلى السلطة في عام 2015 وتسميته نائباً لولي العهد، ورئيساً لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، الذي كان قد أُنشئ حديثاً، ووزيراً للدفاع. اليوم، محمد بن سلمان هو ولي العهد ورئيس الوزراء. ويُحكَم على نجاحه كقائد – على الأقل خلال المرحلة الراهنة – إلى حد كبير من خلال قدرته على تحقيق رؤية السعودية 2030.

يتمثل الهدف المحوري لرؤية السعودية 2030 في وضع السعودية في موقع أفضل يمكّنها من تجاوز التحول العالمي إلى الطاقة النظيفة من خلال التنويع الاقتصادي. الإدراك بأنه يتعين على البلاد تقليص اعتمادها على مبيعات النفط والغاز ليس جديداً – إذ يشكل النفط 74 بالمئة من جميع صادراتها – إلا أن إلحاح القضية بات أكثر حدة بعد التداعيات الاقتصادية العالمية لجائحة كوفيد–19، عندما انخفضت أسعار النفط إلى مستويات قياسية. وقد استمرت ذهنية التنويع حتى بعد غزو روسيا لأوكرانيا، الذي أفضى إلى ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً إلى مستويات قياسية جديدة، الأمر الذي أدى إلى تحقيق أرباح غير مسبوقة في عام 2022 لشركة آرامكو السعودية، شركة النفط التي تملكها الدولة. جادل مسؤولون سعوديون في حديثهم لمجموعة الأزمات أنهم في حين رأوا في ارتفاع الأسعار فرصة أخيرة لحصد المزايا من الثروة الهايدروكاربونية للبلاد، فإن الجهود الرامية إلى تحويل الاقتصاد مستمرة.

ولذلك تقوم الرياض بتوسيع نشاطها الاقتصادي غير النفطي. فهي تخطط لفعل ذلك، على سبيل المثال، من خلال دعم السياحة الدينية وغير الدينية. وتأمل باجتذاب السكان والرساميل الأجنبية من خلال مشاريع كبرى مثل خط نيوم، أو "ذا لاين" وهي مدينة خطية لا يتجاوز عرضها 200 متر ستمتد على طول 170 كم على ساحل البحر الأحمر، وتُشغَّل على الطاقة المتجددة وتستوعب تسعة ملايين نسمة. كما ستعتمد رؤية 2030 على صندوق الثروة السيادي السعودي الذي تبلغ قيمته 700 مليار دولار لضخ استثمارات غير مسبوقة في تطوير القطاعات غير النفطية، مثل الطاقة المتجددة، والرياضة والترفيه، والذكاء الاصطناعي. وفي هذا السياق، تعتزم السعودية تطوير دوري كرة القدم الاحترافية فيها بشراء نجوم مثل كريستيانو رونالدو، وكريم بنزيما ونيمار، إضافة إلى الاستثمار في الألعاب الرياضية التنافسية في الخارج، بما في ذلك تخصيص المليارات لكرة القدم، والغولف، والفنون القتالية المختلطة ورياضات متنوعة أخرى.

من أجل دعم خططه في التنويع الاقتصادي، بدأ ولي العهد بفتح المجتمع السعودي المحافظ، لكن من بعض النواحي وحسب.

ومن أجل دعم خططه في التنويع الاقتصادي، بدأ ولي العهد بفتح المجتمع السعودي المحافظ، لكن من بعض النواحي وحسب. فكما لاحظ المعلقون، تتركز الإصلاحات على نحو وثيق على الميدان الاجتماعي والثقافي. وفي ذلك المجال، يطرح محمد بن سلمان نسخة أكثر تسامحاً للإسلام السني ليحل محل الالتزام الصارم بالشكل الوهابي للإسلام، المتجذر في التفسيرات الحرفية للنصوص الإسلامية الأكثر قدسية. كما يقود إصلاحات دينية وإصلاحات في مجال العمل تهدف إلى منح مزيد من الحقوق للنساء على نحو خاص. وهذه تشمل إلغاء الشرطة الدينية سيئة السمعة التي كانت تراقب الالتزام الصارم بالعقيدة الدينية؛ والسماح للنساء بقيادة السيارات؛ وإلغاء شرط حصول المرأة على موافقة ولي أمرها للعمل أو السفر.

لكن عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية، فإن الوضع يبقى قاتماً. فقد حافظ محمد بن سلمان على نظام ملكي مطلق، يحكَم بقبضة حديدية ولا يترك مجالاً للآراء السياسية المعارضة. إذ يواجه المواطنون السعوديون الاعتقال بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد باعتدال السياسات الحكومية. في حالة بارزة حدثت مؤخراً، حكمت السلطات السعودية بالإعدام على محمد الغامدي، وهو مدرس متقاعد (وشقيق معارض يعيش في المنفى في المملكة المتحدة)، لدعوته لمتابعيه الذين يتجاوز عددهم العشرة بقليل إلى محاربة الفساد. وهذه العقوبة هي الأكثر شدة التي فرضوها على النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي. كما حُكم على مواطنين آخرين استعملوا مثل تلك المنصات للتعبير عن رفضهم للسياسات الحكومية بأحكام سجن طويلة، تتراوح بين 20 و45 عاماً.

في حين أطلق محمد بن سلمان سراح بعض النساء الناشطات الشهيرات اللاتي كن قد سُجنَّ بسبب دعمهن لحق المرأة بقيادة السيارة، فقد احتُجزت أخريات منذ ذلك الحين، وظل العشرات منهن تحت الإقامة الجبرية دون أن يتمكنَّ من مغادرة البلاد. لم يكتفِ باستهداف المجتمع المدني والمواطنين العاديين الذين يجرؤون على رفع الصوت، بل أيضاً أفراد النخب السياسية والاقتصادية السعودية القوية، بما في ذلك أفراد في العائلة المالكة. في عام 2017، أطلق ما يسمى بحملة لمحاربة الفساد، فاعتقل مئات الأمراء، وقادة الأعمال وشخصيات بارزة أخرى، وأجبرهم على ما ذُكِر على تسليم ثرواتهم، في محاولة واضحة للقضاء على الخصوم المحتملين لحكمه.

مجالات تركيز جديدة في الخارج

ومن أجل تكملة الإصلاحات المحلية المتفاوتة، بدأ محمد بن سلمان باتباع سياسة خارجية تركز على نحو جديد على المبادرات الدبلوماسية، سواء لتحسين العلاقات مع جيران السعودية أو لتسوية صراعات قديمة داخل وخارج الشرق الأوسط.

على أحد المستويات، تهدف السعودية إلى توسيع علاقاتها الخارجية بطرق من شأنها أن تجتذب استثمارات خارجية أكبر. وتشمل الأمثلة في العام الماضي استضافة الرياض لعدد كبير من مؤتمرات القمة الرئيسية مع مجلس التعاون الخليجي، وأيضاً مع الولايات المتحدة، والصين ودول في آسيا الوسطى، بين قمم أخرى. ومن بين قادة العالم الذين زاروها كان الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا. وبصفتها عضواً في مجلس التعاون الخليجي، شاركت السعودية أيضاً في الاجتماع الوزاري المشترك السادس بين روسيا ومجلس التعاون الخليجي من أجل حوار إستراتيجي في موسكو.

بذلت [المملكة] جهوداً كبيرة في تسوية نزاعات مع جيرانها وترسيخ نفسها كقوة دبلوماسية إقليمية وعالمية من الوزن الثقيل.

لكن المناورات الجيو-إستراتيجية للمملكة تذهب أبعد من ذلك. فقد بذلت جهوداً كبيرة في تسوية نزاعات مع جيرانها وترسيخ نفسها كقوة دبلوماسية إقليمية وعالمية من الوزن الثقيل. إذ أنهى السعوديون نحو أربع سنوات من الحصار على قطر في كانون الثاني/يناير 2021؛ واستأنفوا العلاقات الدبلوماسية مع إيران في آذار/مارس بعد أكثر من سبع سنوات من انقطاع العلاقات؛ وينخرطون في محادثات مع المتمردين الحوثيين في محاولة لإنهاء التدخل العسكري للمملكة في اليمن. وأسسوا مجلس البحر الأحمر في عام 2020 الذي يشمل جميع الدول التي تحيط بالحوض؛ وفي عام 2023 أصبحوا شريكاً حوارياً مع منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منظمة إقليمية أمنية أوراسية تشمل الصين، وروسيا والهند. وتنخرط السعودية في محادثات لتصبح عضواً في منظومة بريكس – المجموعة المكونة من اقتصادات ناشئة تشمل البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب أفريقيا – بحلول كانون الثاني/يناير 2024. الأمر الذي قد يبدو الأكثر طموحاً، هو أنها يسَّرت على مدى الشهور الماضية مفاوضات بهدف إنهاء الحروب الوحشية المستعصية على الحل في السودان وأوكرانيا، واستضافت محادثات بشأن السودان من أيار/مايو إلى تموز/يوليو وبشأن أوكرانيا في آب/أغسطس.

تقول الرياض إنها مدفوعة برغبة لإقامة مناخ إقليمي أفضل بالنسبة للأعمال. مسؤول سعودي قال لمجموعة الأزمات: "لن تنجح رؤية السعودية 2030 دون استقرار وأمن إقليميين". لكن الأمر أكبر من ذلك. إذ إن المقاربة الجديدة تدفعها أيضاً تصورات سعودية بأن الولايات المتحدة لم يعد من الممكن الركون إليها بدورها القديم وبحكم الأمر الواقع كضامن لأمن الخليج، الأمر الذي يشكل ضغوطاً إضافية على إدارة الدولة في السعودية لخلق مناخ جيوسياسي يساعد على تحقيق أهدافها ومصالحها.

أسباب وكيفية التحوط

تصاعدت المخاوف السعودية بشأن مصداقية الولايات المتحدة على مدى سنوات، بداية بغزو الرئيس جورج دبليو بوش للعراق عام 2003، الذي حاول السعوديون إقناع الولايات المتحدة بعدم شنه. أثار تجاهل الرئيس باراك أوباما لشركاء الولايات المتحدة القدامى مثل الرئيس المصري حسني مبارك، وسط الانتفاضات العربية لعام 2011، مخاوف في أوساط الطبقة الحاكمة السعودية. كما شعر السعوديون بالرعب حيال الاتفاق النووي الذي توصل إليه أوباما عام 2015 مع إيران، الذي قالوا إنه سيوفر لطهران الأموال لتمويل فرض قوتها إقليمياً.

أحد الأحداث التي وجدها السعوديون نافرة وصارخة على نحو خاص كان عندما لم تردّ الولايات المتحدة بشكل كافٍ، من وجهة نظرهم، على هجوم كبير على منشآت آرامكو عام 2019، وهو الهجوم الذي أوقف نحو نصف إنتاج البلاد من النفط مؤقتاً. ردت إدارة الرئيس دونالد ترامب بداية على الهجوم، الذي عزته إلى إيران، بخطاب متشدد، قائلة إن الولايات المتحدة كانت "جاهزة ومستعدة". لكنها أشارت من ثم إلى أن الولايات المتحدة لا تريد حرباً مع إيران وامتنعت عن التدخل عسكرياً. شعر السعوديون بالقلق على نحو خاص من أن الولايات المتحدة تراجعت في ظل رئيس كانوا يعدّونه صديقاً وحليفاً، وبذلوا جهوداً كبيرة للتقرب منه، بما في ذلك دعم حملة إدارته في ممارسة "أقصى الضغوط" على إيران. أبرزت الأحداث المدى الذي تنزع فيه السياسة الأميركية إلى أن تكون محكومة بمصالح وضغوط سياسية مستقلة عمن يجلس في البيت الأبيض.

عزز انتخاب الرئيس بايدن لاحقاً من شعور الرياض بأنه يتعين عليها اتباع مقاربة مختلفة جذرياً أقل اعتماداً بكثير على الدعم الأميركي، حتى لو كان ذلك يعني التصالح مع جيران كان لها معهم علاقات متوترة تقليدياً. خلال الحملة الرئاسية، هاجم بايدن السعودية بسبب سجلها في حقوق الإنسان وسلوكها في اليمن. كما حذر المملكة من أنها "ستدفع ثمناً" لاغتيالها عام 2018 للصحفي السعودي جمال خاشقجي (المقيم في الولايات المتحدة). بعد الفوز بالانتخابات، سمح بايدن بصدور تقرير استخباري يقول إن ولي العهد كان قد وافق على عملية "اعتقال أو قتل" خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. كما أوقف الدعم الأميركي لـ "العمليات الهجومية" للسعودية في اليمن.

تراجعت إدارة بايدن منذ ذلك الحين بشكل محموم – حيث زار الرئيس المملكة لعقد قمم ثنائية ومتعددة وتحضير الأرضية للمصافحة الشهيرة سلباً بلمس القبضات بين بايدن ومحمد بن سلمان. وداعبت مؤخراً حتى فكرة التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يمنح ضمانات أمنية أميركية ودعماً أميركياً لبرنامج طاقة نووية مدني مقابل اتفاق تطبيع غير مرجح بين السعودية وإسرائيل. رغم ذلك، ما من علامة على أن الرياض تعتزم الخروج على إستراتيجية التحوط التي تبنتها حيال الولايات المتحدة.

يتمثل جزء مهم من جهود السعودية للابتعاد عن اعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة في تعميق علاقاتها السياسية والاقتصادية مع قوى منافسة.

يتمثل جزء مهم من جهود السعودية للابتعاد عن اعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة في تعميق علاقاتها السياسية والاقتصادية مع قوى منافسة مثل الصين وروسيا، إضافة إلى تموضعها كقائد رئيسي لما يسمى بالجنوب العالمي. لقد وصف خبراء خليجيون هذه المناورات بأنها تخدم هدف الرياض في تشجيع "حركة عدم انحياز" جديدة، تضطلع فيها بدور قيادي. مسؤولون وخبراء سعوديون، يقولون من جهتهم إنهم ببساطة يرسخون نوعاً من الوطنية قائم على "السعودية أولاً" أصبح روح السياسة الخارجية للمملكة.

وقد مضت المملكة على هذا الطريق مظهرة طاقة كبيرة. فقد رفضت اتباع اندفاعة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى عزل روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا وما تزال تعمل مع روسيا حول السياسة النفطية في تحالف أوبك+. كما عمقت علاقاتها مع الصين. فبعد استضافة الرئيس الصيني تشي في أول قمة صينية–عربية على الإطلاق في كانون الأول/ديسمبر 2022، ومن ثم عززت علاقاتها الاقتصادية مع أكبر شريك تجاري لها، فوقعت عشرات مذكرات التفاهم، بين أشياء أخرى، لتعزيز التعاون الاقتصادي النفطي وغير النفطي. كما وسعت الرياض وبكين علاقتهما وصولاً إلى الميدان السياسي، كما رأينا في الاتفاق السعودي–الإيراني الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية لاستئناف العلاقات. ووسعت الرياض أيضاً شبكة تحالفاتها وشراكاتها. وإضافة إلى الالتزامات المشار إليها أعلاه بمنظمة شنغهاي للتعاون وبريكس، فإنها وقعت على اتفاقات اقتصادية وحوارات إستراتيجية مع قوى إقليمية واقتصادات ناشئة في أفريقيا، وأميركا الجنوبية وآسيا.

التحول الكامل لمحمد بن سلمان

طريقة أخرى لفهم على الأقل بعض عناصر السياسة الخارجية الجديدة للسعودية تتمثل في أن تُفهَم كجزء من جهود محمد بن سلمان لإعادة رسم صورته الدولية. لُطخت تلك الصورة بعمق بسبب سلسلة من التحركات التي نُظر إليها بازدراء لأنها قسرية وحتى وحشية، بينما لم تحقق الكثير من الأهداف السعودية. وتشمل هذه تدخل المملكة في اليمن المجاور بداية من عام 2015؛ وفرضها للحصار الجوي، والبري، والبحري المشار إليه أعلاه على قطر من عام 2017 وحتى مطلع عام 2021؛ واختطافها ومعاملتها الخشنة لرئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، عام 2017؛ واغتيال الخاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018.

رغبة المملكة بالنأي بنفسها عن هذه الأفعال مفهومة بالنظر إلى الاستقبال السيء الذي حظيت به تلك الأحداث وأثرها السيء من حيث التداعيات. في اليمن، أفضى التدخل إلى زيادة الدعم الإيراني للمتمردين الحوثيين؛ وأدى إلى هجمات (تعزى إلى إيران) على الأراضي السعودية وعلى الشحن البحري الدولي الحيوي لرفاهها الاقتصادي؛ وتسبب بمزيد من الضرر لسمعتها بالنظر إلى العدد الكبير من الضحايا المدنيين الذين تسببت الهجمات السعودية بسقوطهم. أخفق حصار قطر في اكتساب دعم أوسع يتجاوز الدول التي شاركت فيه – الإمارات العربية المتحدة، والبحرين ومصر – وانتهى دون تلبية الدوحة لأي من مطالب الرياض الثلاثة عشر. أثار احتجاز الحريري في السعودية وإجباره مؤقتاً على الاستقالة سخط قادة العالم وعمّق مخاوفهم حيال حكم ومزاج محمد بن سلمان. ونفَّر اغتيال خاشقجي المروع الكثير من داعمي المملكة التقليديين في الكونغرس الأميركي.

جعل تراكم هذه التحركات محمد بن سلمان شخصاً لا يحظى بالشعبية لدى كثير من القادة الغربيين، وهو أمر لم يحقق مصالحهم، حتى في عالم كان فيه السعوديون قد بدأوا يعملون بنشاط للتحوط حيال اعتمادهم على واشنطن. وهكذا، من غير المفاجئ أن يكون في السياسة الخارجية الجديدة للمملكة – مع تأكيدها على العلاقات الجيدة مع الجوار إضافة إلى تسوية الصراعات العالمية – بُعد ينطوي على إعادة تأهيل ولي العهد بين أهدافها الأخرى.

أربعة عوامل مقيِّدة

مهما كانت المزايا التي يمكن للسعودية أن تكسبها من سياستها الخارجية بعد إعادة معايرتها (ولاشك أنه سيكون هناك بعض المزايا) فإنها ستواجه عقبات طالما ظلت التحديات الكامنة الرئيسية دون معالجة.

أولاً، لم تفعل المملكة الكثير لتسوية الخلافات الجوهرية مع جيرانها، ولا سيما إيران. لقد أعادت الدولتان افتتاح سفارتيهما كل في الدولة الأخرى، وعينتا سفيرين وتبادلتا وفود مكونة من مسؤولين كبار. لكنهما لم تعالجا على نحو ذي معنى المصادر القديمة للاحتكاك، بما في ذلك علاقات إيران مع الميليشيات في جميع أنحاء المنطقة، وتدخل كلا الطرفين في الشؤون الداخلية للآخر، والنزاعات الحدودية البحرية وغيرها. من المرجح أن تكون معالجة هذه القضايا في محادثات ثنائية وإقليمية جادة شرطاً مسبقاً لتفكيك التوترات على نحو دائم بين هاتين القوتين الإقليميتين الكبيرتين.

من شبه المؤكد أن السعودية تفتقر إلى القدرة على التعامل مع جملة واسعة من المبادرات الدبلوماسية.

ثانياً، من شبه المؤكد أن السعودية تفتقر إلى القدرة على التعامل مع جملة واسعة من المبادرات الدبلوماسية. وهي تواجه أصلاً تحديات حيال عدد من ملفات الصراع، بما في ذلك في اليمن والسودان. إذ إن جهود الوساطة، حالها كحال الصراعات التي تحاول تسويتها، معقدة جداً. في اليمن، يتمثل تعقيد آخر في وضع السعودية كطرف في الصراع. ومن المرجح أن تتطلب قدرة السعودية على التعامل مع عدة عمليات وساطة رئيسية في الوقت نفسه عدداً أكبر بكثير من الموظفين الخبراء الذين يتمتعون بمعرفة عميقة للملفات ذات الصلة. وسيستغرق ذلك وقتاً لتطويره، وثمة مخاطرة في أن تتنطع المملكة لقضايا تتجاوز قدرتها على المعالجة كماً ونوعاً في هذه الأثناء. لكن في الوقت الراهن، لا تظهر المملكة اهتماماً بتقليص طموحاتها. فقد عبر مسؤولون سعوديون عن رغبة بلعب دور أكبر في الوساطة في الحرب الأوكرانية بعد النجاح المفاجئ لانعقاد اجتماع في جدة في آب/أغسطس، ضم الصين؛ بل إنها أشارت لمجموعة الأزمات أنها تستكشف طرقاً لإعادة إطلاق عملية السلام الراكدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع استمرارها في دعم مبادرة السلام العربية لعام 2002.

ثالثاً، تواجه السعودية منافسة من الإمارات العربية المتحدة، وهي جار لا يرغب بالضرورة في رؤية ظهور الرياض على أنها ضابط الإيقاع الدبلوماسي والاقتصادي في المنطقة. لقد اتبعت الإمارات، وهي العضو أيضاً في مجلس التعاون الخليجي سياساتها الاقتصادية والخارجية الطموحة، وتشكل قوة إقليمية من الوزن الثقيل بحد ذاتها. تجد أبو ظبي نفسها على نحو متزايد في خلاف مع الرياض على قضايا سياسية واقتصادية، بما في ذلك جهود إنهاء حرب اليمن، ومختلف سياسات إنتاج النفط، والنفوذ الجيو-إستراتيجي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ومقاربات ملفات الوساطة مثل السودان. ذكرت وول ستريت جورنال في تموز/يوليو أن محمد بن سلمان أخبر مجموعة من الصحفيين المحليين خلال إحاطة غير قابلة للنشر في كانون الأول/ديسمبر أن الإمارات "طعنتنا في الظهر". ليس من الواضح ما كان محمد بن سلمان يشير إليه، لكن من الممكن جداً أنه كان يتحدث عن واحد أو أكثر من الخلافات السياساتية التي ذكرناها أعلاه. وفي الإحاطة نفسها، قال محمد بن سلمان إنه كان قدم للإمارات قائمة من المطالب، مهدداً بإجراءات عقابية إذا لم تلبها أبو ظبي؛ وأبلغ الصحفيين أن الأمر "سيكون أسوأ مما فعلته مع قطر". سواء كان هذا التصريح جاداً أو استعراضاً أدائياً، فإن التوترات بين الرياض وأبو ظبي حقيقية، وستكون كيفية معالجة محمد بن سلمان لها علامة مهمة على ما إذا كان السعوديون مستعدون فعلياً لقلب صفحة السياسات الإقليمية القسرية التي أوقعتهم في المشاكل في الماضي القريب.

رابعاً، حتى لو كان الغضب المتلاشي بشأن اغتيال خاشقجي والحرب في اليمن لم يمنع واشنطن من الاندفاع نحو علاقات أوثق، فإن سجل الرياض في مجال حقوق الإنسان سيظل مسألة مهمة في العلاقات الأميركية–السعودية. كثير من السياسيين والجهات الفاعلة في المجتمع المدني يحملون آراءً سلبية بعمق عن محمد بن سلمان بحيث أن من شأنها أن تخلق، في ظل بعض الظروف، تكاليف سياسية لأي إدارة تقترب منه أكثر من اللازم. تتزايد هذه التكاليف عندما تظهر أخبار مثل تقرير هيومان رايتس ووتش عن قيام حرس حدود سعوديون بقتل مئات من المهاجرين الأثيوبيين على الحدود السعودية اليمنية أو إصدار حكم الإعدام على الغامدي، وهو أحد المنتقدين على وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت الراهن تبدو إدارة بايدن مستعدة لامتصاص هذه التكاليف. لكن كما أظهرت قضية خاشقجي، فإن المزاج السياسي للولايات المتحدة حيال المملكة يمكن أن يتغير بسرعة. في حين أن إستراتيجية الرياض في التحوط تعني أنه سيكون لها أصدقاء أقوياء بصرف النظر عن اتجاه الريح التي تهبّ من واشنطن، فإن مملكة تريد التمتع بدرجة قصوى من المرونة للتحرك بين معسكرات القوة الرئيسية ستحتاج إلى تنظيف سجلها في حقوق الإنسان.

الخلاصة

تتطلع السعودية وولي عهدها الذي لُطخت سمعته، إلى الأمام نحو عالم متغير – ستتمتع فيه بدور أكثر بروزاً. يريد السعوديون أن تتمتع المملكة باقتصاد متنوع، وأن تكون قائداً إقليمياً يعيش بسلام مع جيرانه وأن يُنظر إليه عالمياً على أنه لاعب دبلوماسي من الوزن الثقيل. هذه الأهداف بحد ذاتها لا اعتراض عليها، لكن ثمة طريق طويل ينبغي قطعه للتمكن من تحقيقها. إذا كان بوسع المملكة معالجة التحديات الكامنة الرئيسية – الإمساك بالقضايا الجوهرية التي تدفع التوترات مع طهران، وتطوير قدراتها الدبلوماسية، ووقف التصعيد التنافسي مع الإمارات وأخذ الحاجة لحماية حقوق الإنسان على محمل أكبر بكثير من الجد – عندها يمكن للفجوة بين تطلعات الرياض والواقع أن تضيق. حتى ذلك الحين، قد تظل قادرة على تحقيق التقدم على جبهات معينة، إلا أن التحول الشامل من المرجح أن يظل بعيداً عن متناولها، وسيكون النجاح النهائي لرؤية 2030 عرضة للخطر.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.