تداعيات حرب غزة تَعمُّ الشرق الأوسط
تداعيات حرب غزة تَعمُّ الشرق الأوسط
An image grab, taken from AFPTV video footage shows Palestinians checking the destruction in the aftermath of an Israeli strike on the Jabalia refugee camp in the Gaza Strip. November 1, 2023. Image Grab / AFPTV
Commentary / Middle East & North Africa 20+ minutes

تداعيات حرب غزة تَعمُّ الشرق الأوسط

مع استِعار الحرب في قطاع غزة، يستمر الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني بالتصاعد، ويتسبب بأضرار جسيمة على المدنيين، ويهدد الاستقرار في الشرق الأوسط بأسره. يقدم خبراء مجموعة الأزمات بانوراما شاملة حول مواقف العواصم المختلفة في المنطقة تجاه هذه الأزمة ومصالحها الخاصة فيها.

نجم عن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الذي شنته حركة حماس على التجمعات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة - الذي تحاصره إسرائيل- مقتل 1،400 إسرائيلي وأخذ أكثر من 200 رهينة (ما يزال معظمهم في الأسر)، الأمر الذي أثار رداً غاضباً جداً من قبل الجيش الإسرائيلي. ومنذ ذلك الحين، أدى الرد الانتقامي الإسرائيلي الشديد إلى مقتل الآلاف. وستؤدي الحملة إلى مقتل أعداد لا تحصى أيضاً إذا استمرت إسرائيل في سعيها لتحقيق هدفها المعلن المتمثل بتدمير قدرات حماس العسكرية. لقد هُجِّر مئات الآلاف، وكثيرون منهم لم يعودوا يمتلكون بيتاً يعودون إليه، بالنظر إلى أن إسرائيل تسوِّي بالأرض جزءاً كبيراً من شمال ووسط قطاع غزة. لكن في حين أن آثار العنف كانت في أشد حالاتها في قطاع غزة وإسرائيل، فإن لها أيضاً تداعيات في جميع أنحاء المنطقة، كما تُبيِّن مجموعة الأزمات في المسح الآتي.

مصر

منذ بدأت إسرائيل قصف قطاع غزة بعد هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والمسؤولون المصريون قلقون من احتمال تدفق الفلسطينيين في القطاع الساحلي إلى شبه جزيرة سيناء عبر معبر رفح على الحدود المصرية – سواء هرباً من الصراع أو بسبب قيام إسرائيل بطردهم. لقد فاقم مخاوف حدوث نزوح فلسطيني كبير، بين أشياء أخرى: فرض إسرائيل لما وصفه وزير الدفاع يوآف غالانت بـ"حصار كامل" يمنع دخول الأغذية، والكهرباء والوقود إلى قطاع غزة؛ وإشارات أطلقها مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون بأنهم يرغبون بطرد السكان؛ والتحذير الذي أصدرته السلطات الإسرائيلية في 21 تشرين الأول/أكتوبر لـ 1.1 مليون فلسطيني في شمال قطاع غزة بالانتقال إلى الجزء الجنوبي من القطاع. ولا شك أن موقف القاهرة يتأثر أيضاً بارتفاع عدد الضحايا المدنيين مع الشروع في الغزو البري، وأيضاً بما ذُكِر من وجود ضغوط أوروبية وأميركية لفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين الراغبين بالخروج.

لقد أشارت مصر بقوة لشركائها الإقليميين والدوليين بأنها لا تريد أن تكون مقصداً للمهجَّرين من قطاع غزة، لأسباب مبدئية وبراغماتية على حد سواء. إذ تستذكر القاهرة ما حدث في حرب عام 1948 التي تبعت استقلال إسرائيل، عندما غادر كثير من الفلسطينيين الذين يشكلون سكان غزة اليوم وأسلافهم، أو أجبروا على الخروج من قراهم فيما أصبح اليوم إسرائيل. لم تسمح إسرائيل للفلسطينيين الذين غادروا بالعودة إلى منازلهم عندما انتهت الحرب، وتعتقد القاهرة أن هذا النمط يمكن أن يتكرر بسهولة بالغة بعد توقف القتال الدائر حالياً. عندها سيصبح كثير من الأشخاص الذين يعيشون في غزة الآن لاجئين لمرة ثانية أو ثالثة، الأمر الذي سيفاقم من إحباط تطلعات الفلسطينيين بإقامة دولة وينقل عبء رعاية المهجَّرين إلى مصر. في 21 تشرين الأول/أكتوبر، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن "تصفية القضية الفلسطينية دون حل عادل لن يحدث؛ وفي كل الأحوال، لن يحدث أبداً على حساب مصر". في تمسكها بهذا الموقف، تتمتع القاهرة بدعم عواصم عربية أخرى ومجموعات فلسطينية متشددة، إضافة إلى الشعب في مصر ودول عربية أخرى.

وتعزز موقف القاهرة مخاوف تتعلق بالأمن في سيناء – حيث تحارب الحكومة خلايا جهادية. لقد تلاشى النشاط الجهادي على مدى الشهور القليلة الماضية. أما إذا تدفق عدد كبير من الناس إلى شبه الجزيرة من قطاع غزة، فإن ذلك النشاط قد يبدأ من جديد، على سبيل المثال إذا أقامت المجموعات الجهادية الفلسطينية علاقات لوجستية، وأيديولوجية وعملياتية مع رفاق لها يقيمون في سيناء. علاوة على ذلك، سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فصل المتشددين الفلسطينيين عن مجموع اللاجئين الجدد. إذ يمكن لهؤلاء المتشددين أن يحاولوا شن هجمات على أهداف إسرائيلية من الأراضي المصرية، الأمر الذي سيستدعي رداً من إسرائيل ويزعزع استقرار علاقاتها مع مصر. ويمكن للتداعيات الإنسانية أن تكون خطيرة. إذ إن عدداً كبيراً من سكان شمال سيناء كانوا هم أنفسهم قد هُجِّروا منذ سنوات بسبب حملة على المتمردين. ويمكن لتدفق الفلسطينيين أن يفرض ضغوطاً على البنية التحتية المحلية والموارد المتاحة. فإذا وصل الفلسطينيون بأعداد كبيرة، فإن ذلك سيطرح تحديات كبيرة من حيث استيعابهم في جميع أنحاء مصر، وربما يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار البلاد بأسرها. باختصار، فإن مصر لا تريد أن تُجرَّ إلى صراع إسرائيل مع الفلسطينيين.

لقد دعت مصر إلى تقديم المساعدات الإنسانية للقطاع وعبَّرت عن معارضتها القوية لغزو بري تقوم به إسرائيل.

من أجل تقليص احتمال مغادرة الفلسطينيين لقطاع غزة بأعداد كبيرة، دعت مصر إلى تقديم المساعدات الإنسانية إلى القطاع وعبَّرت عن معارضتها القوية لغزو بري تقوم به إسرائيل. لكن مع شروع مصر بإجراء تحضيرات في العريش، المدينة الواقعة في شمال سيناء، لإرسال قوافل الإغاثة إلى قطاع غزة، قصفت إسرائيل مناطق قرب البوابة الحدودية في رفح في أربع مناسبات بين التاسع والسادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر، ومن ثم منعت استعمالها. في المواجهة التي تلت، طلب المسؤولون المصريون من الولايات المتحدة التوسّط؛ ومنذ 21 تشرين الأول/أكتوبر، سمحت إسرائيل لكميات صغيرة من الغذاء، والمياه والإمدادات الطبية بالمرور من خلال المعبر إلى قطاع غزة. لكن نظراً لقلق إسرائيل من احتمال تحويل الوقود إلى الجناح العسكري لحماس، فإنها ما تزال تمنع إيصاله. بحلول 31 تشرين الأول/أكتوبر، وطبقاً لمصادر محلية ومنظمات غير حكومية دولية في قطاع غزة، فإن هذه المقاربة أوصلت المستشفيات والعمليات الإنسانية الأخرى إلى حافة الانهيار. ففي ذلك اليوم، قال البيت الأبيض إن 66 شاحنة كانت قد عبرت في الساعات الأربع والعشرين الماضية لكنه أقرَّ أن ما حملته الشاحنات لم يقترب مجرد اقتراب من تلبية الحاجات الهائلة في القطاع. وإضافة إلى قطر، فإن مصر شاركت في المفاوضات بشأن إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وغير الإسرائيليين الذين أخذتهم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر.

في حين يبدو أن مصر رفضت أي اقتراح بقبول لاجئين فلسطينيين مقابل تقديم دعم خارجي وإعفاء من الديون – وهو احتمال يُذكَر أن مسؤولين أميركيين وأوروبيين طرحوه – فإن الاضطرابات ستستمر في منح القاهرة فرصاً للحصول على تنازلات من دائنيها وتخفيف حدة صعوباتها الاقتصادية الكبيرة جداً. الاتحاد الأوروبي، القلق بشأن آثار الصراع المزعزعة للاستقرار، والتي يمكن أن تعزز الهجرة غير المنتظمة من مصر إلى أوروبا، ينظر في اتفاق شراكة مع مصر يركز على الهجرة والتعاون الاقتصادي فيما يمكن أن يكون اتفاقاً مماثلاً لاتفاق جرى التوصل إليه مع تونس في تموز/يوليو – والذي سيكون الجزء المحوري فيه رزمة دعم مالي كبيرة. وعلى نحو مماثل، وبالنظر إلى قلق دول الخليج العربية حيال أثر الحرب على استقرار مصر، يُذكر أن هذه الدول تفكر بزيادة إيداعاتها في البنك المركزي المصري لتعزيز قدرة الاقتصاد الهش في البلاد، رغم إحجامها سابقاً عن الاستمرار في تقديم الدعم المالي للقاهرة. يمكن لهذه المساعدات المالية أن توفر لمصر إغاثة اقتصادية هي في أمس الحاجة إليها، الأمر الذي يمكن أن يقلل قتامة المشهد الداخلي على المدى القصير.

الأردن

لقد أغضب الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في أعقاب هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر الأردنيين كثيراً، كما أغضبتهم الكارثة الإنسانية التي نجمت عنه. وأثارت أيضاً تكهنات برغبة إسرائيل في تهجير سكان قطاع غزة الفلسطينيين وأيضاً مخاوف عمرها عقود من أنها تخطط أيضاً لطرد فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن. خرج الأردنيون إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد بشكل يومي. وكان حجم المظاهرات أمام السفارتين الأميركية والإسرائيلية في عمَّان وفي مركز المدينة غير مسبوق. بالنسبة لكثير من الأردنيين، فإن أزمة اليوم كانت المرة الأولى التي يُشاركون فيها في احتجاجات شعبية. ونظراً لقلق الملك عبد الله من حدوث اضطرابات في الداخل وعلى الحدود، فإنه حذَّر من أن "المنطقة كلها على شفا السقوط في الهاوية".

يجادل المعلقون الأردنيون، ولا سيما أولئك من أصل فلسطيني، بغضب بأن الدول الأوروبية منحت إسرائيل شيكا على بياض في قطاع غزة، بينما تنزع الإنسانية عن الشعب الفلسطيني بشكل متكرر في وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية. الملكة رانيا، وهي من أصول فلسطينية، أدانت الدول الغربية بسبب "معاييرها المزدوجة الصارخة" قائلة في مقابلة مع السي. إن. إن في 24 تشرين الأول/أكتوبر بأن الصحفيين الغربيين الذين يطالبون كل من يمثِّل وجهات النظر الفلسطينية أن يدين هجوم حماس أولاً "ينبغي فحص إنسانيتهم وتقديم أوراق اعتمادهم الأخلاقية". حقيقة أنها نشرت هذه الرسالة على منصة معروفة تشير إلى أن المملكة قلقة بشأن حدوث رد فعل من قبل سكان البلاد من أصول فلسطينية ومعظمهم من اللاجئين بين عامي 1948 و1967. (والأردن البلد العربي الوحيد الذي منح الجنسية للاجئين الفلسطينيين.)

أكد [الأردن] على التزامه بإعادة إطلاق عملية سلام إسرائيلية فلسطينية.

بالفعل، فقد تعيَّن على القيادة الأردنية القيام ببعض الإجراءات للحد من الأضرار فيما يتعلق بالأردنيين من أصل فلسطيني. ففي اليوم الثاني من الحرب، أشارت تقارير إلى أن الحكومة الأردنية كانت تسمح للولايات المتحدة بإرسال الأسلحة إلى إسرائيل عبر الأردن. سارعت الحكومة إلى نفي التقرير، مؤكدة على معارضتها للأفعال التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة. كما أكدت على التزامها بإعادة إطلاق عملية السلام الإسرائيلية–الفلسطينية والتي من شأنها أن تؤدي إلى حل الدولتين وضمان حقوق وحريات الفلسطينيين.

كما يؤثر التصوّر في أن إسرائيل قد ترغب بطرد الفلسطينيين من قطاع غزة وربما حتى من الضفة الغربية في تفكير النخبة السياسية الأردنية. في نقاش دار في معهد السياسة والمجتمع في عمَّان، بمشاركة وزير الخارجية الأسبق مروان المعشر، بين آخرين، عبَّر المشاركون عن قناعتهم بأن خطة إسرائيل طويلة الأمد تتمثل في استعمال حملتها العسكرية لإخراج السكان الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء ومن ثم طرد الفلسطينيين أيضاً من الضفة الغربية. وقالوا إن هذا النوع من الدعم غير المشروط الذي تقدمه الدول الغربية لإسرائيل حالياً سيكون له تداعيات، إذا استمر. ويشعرون بالقلق من أنه سيشجع اليمين الإسرائيلي، الذي دعا منذ وقت طويل إلى إجراء عملية نقل (أو ترانسفير) لجميع الفلسطينيين إلى الأردن، ومن ثم تُحوِّل أنظارها إلى الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتُخرج أولئك أيضاً وتُحوِّل الأردن إلى وطن فلسطيني بحكم الأمر الواقع.

هذه المخاوف مدفوعة إلى حد كبير ليس بتاريخ الصراع وحسب بل أيضاً ببيانات صدرت مؤخراً عن سياسيين إسرائيليين.

فقد دعا عضو واحد في الكنيست الإسرائيلي على الأقل صراحة إلى "نكبة ثانية". (يستعمل العرب عادة كلمة نكبة للإشارة إلى تهجير 750 ألف فلسطيني عام 1948 من الأراضي التي تحولت بسرعة إلى إسرائيل). وقد وزّع مستوطنون إسرائيليون في الضفة الغربية منشورات تهدد الفلسطينيين بالإخلاء القسري إذا لم ينتقلوا إلى الأردن. ومن المزمع أن يصوّت الكنيست الإسرائيلي على مقترح يقدمه وزير الأمن الوطني الذي ينتمي إلى اليمين المتطرف إيتمار بن غفير باستعمال الرصاص الحي في قمع مظاهرات المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

حتى لو لم يكن التهجير القسري للمزيد من الفلسطينيين من الضفة الغربية هو السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القريب، فإن شبحه يشكل هاجساً كبيراً لكثير من الأردنيين بسبب التداعيات الخطيرة التي سيحدثها. فالمستوى المرتفع جداً في الأصل للمعارضة الشعبية لإسرائيل يخاطر بإجبار الحكومة على إعادة النظر في اتفاقية السلام مع إسرائيل. ففي 1 تشرين الثاني/نوفمبر، استدعى الأردن سفيره في إسرائيل، قائلاً إن السفير لن يعود إلا عندما توقف إسرائيل هجومها على قطاع غزة. وسيكون للتهجير الجماعي إلى الأردن آثار اقتصادية مدمرة، كما أن الواقع الديموغرافي الجديد الذي سيتمثل في تحول الأردن إلى دولة فلسطينية بحكم الأمر الواقع من شبه المؤكد أن يزعزع استقرار النظام السياسي، الذي يمنح تاريخياً حظوة أكبر للأردنيين من أصول غير فلسطينية.

كما أن للأردن هاجس إضافي بصفته الوصي على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة في القدس؛ فإذا أحدث القتال في قطاع غزة انفجاراً في القدس والضفة الغربية، فإنه سيعرض للخطر الدور الفعال لعمَّان في إدارة هذه الأماكن ويشعل الغضب الشعبي. لقد عبّر الأردن على نحو متكرر عن انزعاجه من الانتهاكات الإسرائيلية للوضع القائم تاريخياً في هذه الأماكن، بما في ذلك سماح إسرائيل لليهود بالصلاة في الحرم الشريف/مُجمع جبل الهيكل. لكن في الوقت الراهن، فإن الوضع هادئ في هذه الأماكن المقدسة، ولم تتحدث عمَّان عن ذلك صراحة منذ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر.

لبنان

بالنظر إلى تاريخ من العداء بين إسرائيل وحزب الله، الحزب الشيعي/الميليشيا، فإن لبنان هو البلد الذي من الأكثر ترجيحاً أن ينخرط في حرب مكتملة الأركان بسبب الأزمة المتفاقمة في قطاع غزة. والتبادلات شبه المستمرة لإطلاق النار في الأسابيع الأخيرة تعزز هذا الانطباع. صحيح أن جميع الأحزاب السياسية الرئيسية في لبنان أعلنت أنها لا تريد حدوث مثل هذه الحرب. لكن حتى في أوقات أقل اضطراباً، فإن حزب الله اتبع سياسة خارجية خاصة به – بما في ذلك بشأن متى وكيف يستعمل ترسانته الهائلة – دون إخضاع قراراته لمراجعة سياسية داخلية. وهكذا، في حين أن حزب الله نفسه يقول إنه يفضّل تجنب صراع أوسع، لا يستطيع أي تجمع للقوى اللبنانية الفاعلة أن يمنعه من الانخراط في اشتباكات على الحدود اللبنانية–الإسرائيلية – رغم أن مثل تلك الأعمال العدائية تبقي البلاد تحت تهديد مستمر بالانزلاق إلى صراع مُكلف مع جاره القوي إلى الجنوب.

لا تنسجم إعلانات حزب الله بأنه لا يعتزم الانخراط في حرب مع إسرائيل مع الخطاب المعتاد للحزب.

لا تنسجم إعلانات حزب الله بأنه لا يعتزم الانخراط في حرب مع إسرائيل مع الخطاب المعتاد للحزب. إذ يَعدُّ الحزب نفسه عضواً مع حماس في "محور المقاومة"، وهو تحالف من القوى الفاعلة المكونة من دول وكيانات من غير الدول، يعارض إسرائيل والولايات المتحدة، ويشمل أيضاً إيران، وسورية، والحوثيين في اليمن وعدد من المجموعات المتشددة الناشطة في العراق وسورية. لقد أكد حزب الله على التعاون الوثيق بين مكونات هذا التحالف بصفته هدفاً إستراتيجياً في السنوات الأخيرة؛ وقد حذّر مسؤولو الحزب على نحو متكرر إسرائيل – منذ ما قبل الأزمة الراهنة بوقت طويل – من أنها قد تواجه حرباً متعددة الجبهات. تشكل مثل هذه التحذيرات عنصراً رئيسياً في موقف الردع الذي يتخذه حزب الله.

كرر زعيم حزب الله حسن نصر الله تحذيرات مماثلة في خطاب ألقاه في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، بينما أضاف الراعي الخارجي للحزب، إيران، تحذيرات منذرة بالشؤم لإسرائيل بعدم التصعيد. إسرائيل والولايات المتحدة، من جهتهما، ردتا برسائل تحتوي عبارات قوية، وحركت الولايات المتحدة أصولاً بحرية كبيرة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لردع حزب الله، وتالياً، إيران. يُذكر أيضاً أن واشنطن، ومن أجل منع التصعيد، عملت بهدوء على إقناع إسرائيل بعدم اتخاذ إجراءات عقابية ضد حزب الله على الهجمات التي يقوم بها مسلحون فلسطينيون من لبنان.

لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان حزب الله سيدفع نحو ضبط النفس أو إلى الانخراط. منذ عام 2006، عندما خاض الحزب حرباً مدمرة مع إسرائيل، كان دعمه لحليفته حماس في جولات صراعها مع إسرائيل، كما حدث في نيسان/أبريل 2021، محدوداً. إذ كان يُقدِّم على نحو عام دعماً لفظياً، وعلى ما يذكر، مشورة إستراتيجية وتبادلاً للمعلومات الاستخبارية، دون أن يشارك مباشرة في الهجمات على إسرائيل من الأراضي اللبنانية. لكن بالنظر إلى التهديد الجدِّي الذي تتعرض له حماس ومحورية النضال الفلسطيني بالنسبة لمنظوره الأيديولوجي، فإن حزب الله قد يشعر أنه ملزم بأن يهبّ إلى مساعدة شريكه في الصراع الراهن. في خطابه، حذّر نصر الله من أن حزب الله يمكن أن يصعِّد استناداً إلى المدى الذي تصله حرب إسرائيل في قطاع غزة و/أو الضحايا المدنيين في لبنان بسبب القصف الإسرائيلي.

في هذه الأثناء، تتسبب الاشتباكات الحدودية بمخاطر خاصة بها. ففي اليوم الثاني للحرب، شن حزب الله هجوماً دون أن يُستفَز في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها، التي تحتلها القوات الإسرائيلية، والتي تبادلت إسرائيل وحزب الله إطلاق النار فيها في الماضي. في الأيام التالية، استدعت توغلات مجموعات فلسطينية عبر الحدود قصفاً إسرائيلياً أدى إلى مقتل مقاتلين في حزب الله، الأمر الذي أطلق ديناميكية تصعيدية تتنامى ببطء منذ ذلك الحين. حتى 28 تشرين الأول/أكتوبر، كان القتال يقتصر على نطاق محدّد على جانبي الحدود وبعمق نحو 5 كم، وهو المدى التقريبي للقذائف الموجهة المضادة للدبابات التي يستعملها حزب الله. وبالنظر إلى أن معظم المدنيين على جانبي الحدود إما هربوا أو أخليوا، فإن معظم الضحايا الذين ذكر أنهم سقطوا حتى الآن كانوا من المقاتلين. في خطابه في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، ذكر نصر الله 57 قتيلاً (تدَّعي إسرائيل أنها قتلت 70). حزب الله، من جهته، يدَّعي أن الحزب قتل أو جرح 120 جندياً إسرائيلياً؛ بينما تعترف إسرائيل بمقتل ستة جنود ومدني واحد. في الأيام الأخيرة من تشرين الأول/أكتوبر، قصف حزب الله وإسرائيل مواقع تبعد 15 كم داخل أرض العدو، الأمر الذي يطرح احتمال سقوط ضحايا مدنيين، ونشوء الخطر المتمثل في تسارع عملية التصعيد.

متحدث باسم حزب الله قال إن الحزب يستعمل هذه التكتيكات لتحقيق عدة أهداف مترابطة. وعلى رأس قائمة هذه الأهداف إبقاء الجيش الإسرائيلي في الشمال واستعمال تهديد فتح جبهة جديدة في الحرب لجعل إسرائيل تفكر مرتين في مدى تصعيدها في قطاع غزة. كما يهدف حزب الله إلى المحافظة على تركيز واشنطن على التوسيع المحتمل للصراع، واحتمال أن تنضم الولايات المتحدة نفسها إلى صراع يدوم سنوات في الشرق الأوسط، الأمر الذي يسمح لروسيا والصين بتعميق نفوذهما في المنطقة على حسابها.

القوى السياسية اللبنانية الأخرى أقل صلة بالموضوع، جزئياً لأنها أضعف من أي وقت مضى في مواجهة حزب الله.

القوى السياسية اللبنانية الأخرى أقل صلة بالموضوع، جزئياً لأنها أضعف من أي وقت مضى في مواجهة حزب الله. في لبنان حكومة تصريف أعمال يشكَّك بشرعيتها بشدة. مستشار رفيع المستوى لرئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، أقرّ بأن أكثر ما يمكن لرئيس الوزراء أن يفعله هو أن يحاول الدفع بمصلحة البلاد في تجنب صراع حدودي – ولا سيما خلال أزمة اقتصادية كارثية – إلى مقدمة حسابات حزب الله. وقال المستشار: "من الواضح أن القرار ليس في يد الحكومة". أحد أعضاء مجلس النواب المرتبطين بحليف لحزب الله ادعى أن حزبه نقل هواجسه بشأن المزيد من التصعيد العسكري إلى الممثلين السياسيين لحزب الله؛ وأقر هو أيضاً أن هؤلاء النظراء يعملون على نحو منفصل عن القيادة العسكرية لحزب الله.

كما يبدو أن قادة حزب الله محصنين ضد أي ضغوط ضد الحرب يمكن أن تنشأ في أوساط شيعة لبنان، الذين من المرجح أن يتحملوا وطأة الحرب مع إسرائيل، رغم أن من شبه المؤكد أن يلتزموا خط الحزب إذا قرر خوض مثل هذا الصراع. يتركز السكان الشيعة في جنوب لبنان وأيضاً في ضواحي بيروت الجنوبية وأجزاء من وادي البقاع. وقد ركزت إسرائيل قصفها على هذه المناطق في الماضي، ولا سيما خلال حرب عام 2006، قائلة إنها تستهدف أصولاً لحزب الله. إلا أن محللاً مقرباً من حزب الله عبر عن ثقته بأن أنصار الحزب لا يخشون صراعاً واسع النطاق بل إنهم، وبسبب تأثرهم بالتقارير الواردة عن الفظاعات المرتكبة في قطاع غزة، قد يدفعون قادة الحزب للتدخل بقوة أكبر.

إذا اندلعت الحرب، يأمل حزب الله أيضاً أن قتاله باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية قد يعزز الدعم الذي يتمتع به في أوساط سُنّة لبنان. لكنه قد يجد صعوبة في ذلك، ففي حين أن مجموعات سنية متشددة لبنانية كثيرة قد أعلنت أصلاً استعدادها للقتال إلى جانب الحزب، فإن مجموعات كثيرة ما تزال تستذكر معارك الشوارع المريرة بين السنة والشيعة في أيار/مايو 2008، التي أشعل فتيلها الحديث عن نزع سلاح حزب الله، والتي لطخت سمعة الحزب الشيعي بنظرهم.

تركيا

مباشرة بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، بدأت أنقرة نشاطاً دبلوماسياً مكثفاً لدفع الطرفين إلى خفض التصعيد وتجنب حدوث مواجهة أوسع. واستعملت خطاباً متوازناً في دعوتها الطرفين إلى ممارسة ضبط النفس بينما كان القصف الإسرائيلي يحوِّل أجزاء من قطاع غزة إلى ركام، واستمرت حماس في إطلاق الصواريخ على إسرائيل. كما قال المسؤولون الأتراك أيضاً إنهم كانوا مستعدين للتوسط بين الطرفين خدمة لوقف التصعيد والعمل لتحقيق حل الدولتين على أساس حدود عام 1967 – مع احتمال قيام أنقرة وجهات فاعلة خارجية أخرى بدور الضامنين. ويذكر أن الحكومة التركية طلبت من قادة حماس، بمن فيهم رئيسها إسماعيل هنية، مغادرة البلاد، لكن أنقرة أنكرت أنها فعلت ذلك، على الأرجح لتجنب تعرضها للإدانة من قبل مكونات محلية مؤيدة لحماس.

مع توسع الحملة العسكرية الإسرائيلية، ارتفعت وتيرة الانتقادات التركية لها. وفيما يعكس رأياً عاماً طاغياً، ينظر المسؤولون الأتراك إلى الحملة على أنها غير متناسبة بشكل كبير وتتجاوز حدود الرد المبرر على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 26 تشرين الأول/أكتوبر: "لقد تجاوزت هجمات [إسرائيل] على غزة منذ أمد طويل حدود الدفاع عن النفس وتحولت إلى قسوة، ومجزرة وبربرية صريحة". وفي سياق منفصل، دافع عن مقاتلي حماس في "محاولتهم حماية أرضهم". يشعر المسؤولون الأتراك بالقلق من أن هجوم إسرائيل البري في قطاع غزة، وبوتيرة تقدمه الحالية، سيفرض مزيداً من البؤس على المدنيين الأبرياء. ويؤكدون على الحاجة الملحة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة؛ وقد أصرّوا على هذه القضية في حوارات تركيا الدبلوماسية مع الأطراف. ومن غير المفاجئ أن تدين أنقرة بقوة الغارة الإسرائيلية التي شُنت في 30 تشرين الأول/أكتوبر على مستشفى الصداقة التركي–الفلسطيني في قطاع غزة، وهو هجوم أصاب السلطات التركية بالإحباط على نحو خاص لأنها كانت قد أطلعت السلطات الإسرائيلية على إحداثياته منذ وقت طويل.

لقد قلّصت حرب [غزة] آفاق تحسين العلاقات التركية–الإسرائيلية، التي استأنفها الطرفان على نحو كامل قبل سنة بعد عشر سنوات مضطربة.

لقد قلّصت حرب [غزة] أصلاً آفاق تحسين العلاقات التركية–الإسرائيلية، التي استأنفها الطرفان على نحو كامل قبل سنة، بعد عشر سنوات مضطربة. كان جزء كبير من المشاكل مرتبطاً بالوضع الفلسطيني في قطاع غزة. قطعت أنقرة علاقاتها مع إسرائيل في منتصف عام 2010، بعد مهاجمة القوات الإسرائيلية لـ ’مافي مرمرة‘، وهي سفينة مدنية تركية كانت جزءاً من مجموعة سفن تحمل مساعدات إنسانية لقطاع غزة. قتل الجنود الإسرائيليون عشرة من طاقم السفينة الأتراك في ذلك الحادث. واستغرقت استعادة العلاقات بين إسرائيل وتركيا ست سنوات، فقط لتعود إلى الانقطاع مرة أخرى عام 2018. ففي أيار/مايو من ذلك العام، خفضت أنقرة مستوى علاقاتها وطردت السفير الإسرائيلي بعد قيام جنود إسرائيليين بقتل 60 متظاهراً فلسطينياً على حدود قطاع غزة. في عامي 2021 و2022، وكجزء من تحولها إلى سياسة خارجية أكثر براغماتية وفي محاولة لكسر عزلتها في شرق المتوسط، استأنفت تركيا مرة أخرى علاقاتها الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل. ومن بين أشياء أخرى، كان البلدان يدرسان مد أنبوب غاز يمتد من  إسرائيل عبر تركيا، ومن هناك إلى أوروبا. لكن مصير ذلك المشروع يبدو الآن غير مؤكد على نحو متزايد. في 28 تشرين الأول/أكتوبر، استدعت إسرائيل دبلوماسييها من تركيا تعبيراً عن عدم رضاها حيال ما سماه وزير خارجيتها إيلي كوهين "بيانات خطيرة" تنتقد السلوك الإسرائيلي في الحرب.

كما تضيف الحرب في غزة درجة من عدم القدرة على التنبؤ بمحاولات أنقرة تطبيع علاقاتها مع مصر، والسعودية والإمارات العربية المتحدة. إذ قطعت العلاقات في أعقاب الانتفاضات الشعبية العربية عام 2011، عندما دعمت أنقرة مجموعات مرتبطة بـ'الوحش الأسود' في هذه الدول، الإخوان المسلمين. وقد قال بعض المعلقين الموالين للحكومة إن الحرب يمكن أن تفضي إلى تفاقم عزلة إسرائيل الإقليمية، ونتيجة لذلك، تساعد أنقرة في تعزيز علاقاتها مع هذه الدول.

في هذه الأثناء، فإن مقاربة تركيا لحماس تعقِّد المشهد. فعلى عكس الولايات المتحدة، وبعض الدول الغربية الأخرى وإسرائيل، فإن أنقرة لم تصنّف الحركة تنظيماً إرهابياً. في الواقع، فإن أنقرة استثمرت سنوات من الجهود في محاولات (غير ناجحة) تحويل حماس من "المقاومة المسلحة" إلى شريك محتمل في سيناريو حل الدولتين، بشكل رئيسي بتقوية جناحها السياسي. وبالفعل، فإن الأعضاء المرتبطين بذلك الجناح وجدوا ملاذاً في المدن التركية. ولطالما انتقدت إسرائيل أنقرة على موقفها، ووسط أحدث محاولات تطبيع العلاقات بين البلدين، يذكر أن أنقرة اتخذت خطوات لتقليص بعض مجالات حماس للمناورة في تركيا. ويذكر أن كثيراً من أعضاء حماس، بمن فيهم هنية، القائد الآنف الذكر للجناح السياسي للحركة، غادر إلى قطر نتيجة لذلك. ليس من الواضح مدى نفوذ تركيا على المكون السياسي لحماس اليوم، لكن من المرجح أن يكون قد تقلّص خلال السنوات القليلة الماضية مع فرض الجناح العسكري في الحركة، المدعوم إيرانياً، لهيمنته.

 إلا أن هذا التاريخ، مع تحول أردوغان بشكل كامل إلى خطاب مؤيد للفلسطينيين، وأحياناً مؤيد لحماس صراحة، سيحد من آفاق اقتطاع أنقرة لنفسها دوراً في الوساطة في الأزمة الراهنة. كما أن تدهور العلاقات التركية–الإسرائيلية يضيّق المجال المتاح لأنقرة للعمل كوسيط نزيه. بدلاً من ذلك، فإن قطر، شريك تركيا الرئيسي في الخليج، باتت في مقدمة الجهود لتأمين إطلاق سراح الرهائن. رغم ذلك، فإن قنوات أنقرة مع الجناح السياسي في حماس يمكن أن تكون مفيدة في وقت لاحق.

يمكن لقنوات أنقرة مع الجناح السياسي في حماس أن تكون مفيدة في وقت لاحق.

 إلا أن هذا التاريخ، مع تحول أردوغان بشكل كامل إلى خطاب مؤيد للفلسطينيين، وأحياناً مؤيد لحماس صراحة، سيحد من آفاق اقتطاع أنقرة لنفسها دوراً في الوساطة في الأزمة الراهنة. كما أن تدهور العلاقات التركية–الإسرائيلية يضيّق المجال المتاح لأنقرة للعمل كوسيط نزيه. بدلاً من ذلك، فإن قطر، شريك تركيا الرئيسي في الخليج، باتت في مقدمة الجهود لتأمين إطلاق سراح الرهائن. رغم ذلك، فإن قنوات أنقرة مع الجناح السياسي في حماس يمكن أن تكون مفيدة في وقت لاحق.

كما تُحدث الحرب في غزة اضطرابات في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي أظهرت علامات على التحسن قبل بضعة أشهر وحسب، لكنها ستواجه الآن ضغوطاً متزايدة طالما استمرت الحرب. تختلف تركيا والدول الغربية على كيفية النظر إلى حماس وكيفية الرد على الأعمال العسكرية لإسرائيل. حتى في الأيام الأولى لهجمات حماس، عندما كان المسؤولون الأتراك يحاولون تقديم منظور متوازن للصراع، انتقد أردوغان وآخرون الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على ما وصفوه لاحقاً بـ شيك على بياض لإسرائيل كي تتعامل مع حماس كما تشاء. وردَّ أردوغان بحدة عندما أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات إلى شرق المتوسط، مشككا في نواياها. أثار الهجوم على المستشفى الأهلي في غزة في 17 تشرين الأول/أكتوبر – والذي ما تزال مسؤولية القيام به موضع شك – احتجاجات واسعة مؤيدة للفلسطينيين في تركيا، بما في ذلك في قاعدة كورجيك للرادار التابعة للناتو في ملاطية في شرق البلاد، حيث اتهم المتظاهرون إسرائيل بتنفيذ الضربة. أغلقت الولايات المتحدة قنصليتها في أضنة في جنوب تركيا كإجراء أمني.

طالما استمرت هذه الأزمة، فإن القادة الأتراك سيستمرون في التعرض للجذب من ثلاثة اتجاهات، نحو منح الأفضلية للتعاطف الشعبي القوي مع النضال الفلسطيني؛ أو للتحالفات الغربية للدولة؛ أو لالتزام أنقرة بسياسة خارجية نشطة تدفعها بشكل طبيعي للسعي إلى لعب دور بارز في محاولة تسوية الصراع.

إيران

لقد سعت إيران للنأي بنفسها عن الاتهامات بأنه كان لها دور مباشر في هجمات حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، رغم دعمها القديم والمستمر للحركة وامتداحها للعملية بعد حدوثها. منذ ذلك الحين، ارتفع صوتها محذرة من التداعيات الإقليمية لحملة إسرائيلية موسعة في قطاع غزة. وأعلن القائد الأعلى علي خامنائي في 10 تشرين الأول/أكتوبر: "العالم الإسلامي برمّته مجبر على دعم الفلسطينيين، وإن شاء الله، سيدعمهم. لكن هذا العمل نفذه الفلسطينيون أنفسهم".

بالنسبة لطهران، توفر الأزمة فرصاً. ولا شك أنها سُرَّت بأن بعض الدول العربية التي كانت تفكّر بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، خصمها الرئيسي في الشرق الأوسط، يُصدر الآن انتقادات قوية للأفعال الإسرائيلية. لقد أبرزت فكرة أن هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر كشف هشاشة إسرائيل، واستغلت كل فرصة ممكنة لإدانة ما تدعي أنه تواطؤ أميركي في إلهاب الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، مُحاولةً تعظيم الضرر الواقع على سمعة واشنطن الذي كانت تعانيه أصلاً في المنطقة.

لقد صعّدت المجموعات المدعومة من إيران هجماتها على إسرائيل وأيضاً على القوى الأميركية في المنطقة.

لكن ثمة مخاطر كبيرة أيضاً، بما في ذلك أن عادة إيران في ممارسة سياسات حافة الهاوية ستنعكس عليها. لقد صعَّدت المجموعات المدعومة من إيران هجماتها على إسرائيل وأيضاً على القوات الأميركية في المنطقة، حيث وقع أكثر من اثني عشر حادثاً منذ منتصف تشرين الأول/أكتوبر في سورية والعراق، الأمر الذي قوَّض ما كان هدوءاً مؤقتاً في الأعمال العدائية بين واشنطن وطهران. ويُعتقد على نطاق واسع بأن ذلك الهدوء جزء من تفاهمات غير رسمية لخفض التصعيد بين الخصمين.

المفارقة أن طهران قد ترى في هذه الهجمات – إضافة إلى خطاب المسؤولين السياسيين والعسكريين الإيرانيين المهدِّدين بمزيد من التصعيد إذا استمرت إسرائيل على مسارها الراهن -  في محاولة لإدارة مخاطر الصراع. بعبارة أخرى، فإن إيران ورفاقها في السلاح قد يسعون إلى إقناع إسرائيل وحلفائها بعدم شن حملة موسعة في قطاع غزة أو لبنان من شأنها أن تَجرَّ إليها لاعبين إقليميين آخرين، الأمر الذي سيورط إيران لكن سيهلك إسرائيل. هذا هو منطق سياسة إيران "الدفاع المتقدم"، التي تسعى إلى استغلال نقاط هشاشة عديدة للولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط بحيث تتمكن من الرد إذا هوجمت وعندما تهاجم. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يحذرون بدورهم "محور المقاومة" من مخاطر فتح عدة جبهات، ملمحين إلى أن عمليات "المحور" ستقابل بقوة نيران أميركية و/أو إسرائيلية طاغية. لقد أكدت إدارة بايدن على هذه الرسالة بنشرها أصولاً عسكرية في الشرق الأوسط وانخرطت في جولة من الضربات الجوية الانتقامية في شرق سورية – بينما أوضحت أن ثمة المزيد إذا استمرت الجماعات المسلحة بضرب القوات الأميركية.

على هذه الخلفية، يضع التوغل البري الإسرائيلي في غزة طهران في مأزق. فإذا منعت نفسها ومنعت حزب الله من التدخل لمنع تدمير حماس، فإنها ستفقد مصداقيتها لدى حلفائها المحليين الآخرين، بالنظر إلى أنها بدت مترددة في مواجهة خصومها. لكن إذا شجعت حزب الله أو شركاءها الإقليميين الآخرين على التدخل بقوة أكبر مما فعلوا حتى الآن، فإنها قد تدفع إسرائيل، بدعم أو مساعدة مباشرة من الولايات المتحدة، إلى إلحاق ضرر كبير بقدرات حزب الله. في السيناريو الأول، تخاطر إيران بفقدان ماء وجهها. وفي السيناريو الثاني، تخاطر بخسارة يدها اليمنى المهمة جداً لها في سورية ولبنان – والتي تساعد قدرتها على ضرب الأصول الأميركية والإسرائيلية في حماية طهران من عمل محتمل ضد برنامجها النووي، الذي يعمل بمستويات متقدمة على نحو مرعب بالنظر إلى انهيار الجهود الدبلوماسية لاحتوائه.

قد تحاول إيران تربيع هذه الدائرة بتشجيع حلفائها على تصعيد هجماتهم على إسرائيل والولايات المتحدة بطريقة محسوبة بدقة. لكن سيكون لهذه الإستراتيجية حدوداً. فكما لاحظنا، أوضحت الولايات المتحدة أنها سترد على الهجمات التي تُشن على قواتها، وما من شك في أن إسرائيل ستفعل الشيء نفسه، الأمر الذي يجعل مخاطر التصعيد – ولا سيما في حال وقوع خطأ أو سوء حساب – كبيرة.

على مدى أربعة عقود تقريباً، ساعدت سياسة الدفاع المتقدم التي تنتهجها إيران في ردع المهاجمين الأجانب بإظهار قوتها من خلال حلفاء وشركاء في جميع أنحاء المنطقة. ويختبر الصراع في قطاع غزة حدود تلك السياسة بطريقة غير مسبوقة، وذلك بالتهديد بجر طهران مباشرة إلى التشابكات التي سعت إلى تجنبها.

العراق

لقد دفع هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل والصراع الناجم عن ذلك مجموعات مسلّحة بارزة متحالفة مع إيران لكسر الهدنة من طرف واحد مع القوات الأميركية في العراق وسورية والتي استمرت لنحو عام من الزمن. بدأت هذه المجموعات، المرتبطة بـ "محور المقاومة" المشار إليه آنفاً، بالالتزام بهذه الهدنة قبل شهرين من وصول حكومة محمد شيّاع السوداني إلى السلطة في بغداد في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. ويشارك ممثلوها في البرلمان وفي الحكومة أيضاً. لكن في 8 تشرين الأول/أكتوبر، تعهدت عصائب أهل الحق، وحركة النجباء، وكتائب حزب الله ومنظمة بدر – وجميعها جزء من هذه المجموعة – بضرب أصول الولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة إذا تدخلت الولايات المتحدة مباشرة في الحرب.

على مدى الأسبوعين الماضيين، أعلنت المجموعات العراقية، التي تسمى الآن المقاومة الإسلامية، مسؤوليتها عن هجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ على قواعد توجد فيها قوات أميركية، بما في ذلك عين الأسد في الأنبار وحرير في أربيل، وكلاهما في العراق، إضافة إلى التنف عبر الحدود السورية والشدادي في شمال شرق سورية. لم يُذكر وقوع خسائر في الأرواح حتى الآن، ويبدو أن المجموعات تستهدف المناطق المحيطة بالقواعد – بدلاً من مهاجمة المنشآت الفعلية – لتقليص فرص إصابة جنود أميركيين وإدارة مخاطر التصعيد. حتى الآن، ردت الولايات المتحدة فقط على مواقع هذه المجموعات في سورية، على الأرجح بسبب احتمالات التصعيد، التي يمكن أن تُعرِّض الوجود الأميركي للخطر في العراق. كان هذا المنطق واضحاً أيضاً خلال سنة من الهدنة، عندما ظلت الهجمات والهجمات المضادة المتقطعة في داخل سورية. في هذه الأثناء، وَفَت هذه المجموعات بوعد عدم استهداف البعثات الدبلوماسية. رغم ذلك، سحبت الولايات المتحدة طواقمها غير الأساسية من سفارتها في بغداد وقلصت عدد موظفيها في قنصلية أربيل. وقد أبلغت الحكومة في عدة مناسبات بوجوب توقف الهجمات.

كان خطاب [رئيس الوزراء] السوداني في القمة العربية في القاهرة في 21 تشرين الأول/أكتوبر أحد أقوى الخطب في إدانته لأفعال إسرائيل في قطاع غزة.

حكومة السوداني، التي سعت لإصلاح علاقاتها مع الولايات المتحدة على مدى العام الماضي، في وضع قلق. بالنظر إلى أن الحكومة تعتمد إلى حد كبير على الدعم السياسي من مجموعات مرتبطة بإيران، فإن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى نظرت إليها في البداية على أنها تميل نحو طهران، على عكس سلف السوداني الأكثر ميلاً إلى الغرب، مصطفى الكاظمي. لقد عمل السوداني بجد لمعالجة هذه الهواجس. إلا إن أزمة غزة تهدد بعكس بعض التقدم الذي حققه. إذ تقف النُخَب والرأي العام خلف الفلسطينيين بقوة، وأوضحت بعض الفصائل السياسية إحباطها العميق من شركاء إسرائيل الغربيين. على سبيل المثال، فقد تعرضت الحكومة للضغط من التيار الصدري، أكبر حزب شيعي عراقي خارج الحكومة والبرلمان، الذي حث المشرعين على سن إجراء يطالب بانسحاب نحو 2,000 جندي عراقي ما يزالون في البلاد (ظاهرياً في مهمة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية). لقد أوضحت الحكومة وداعموها بأن مثل ذلك المشروع لن يعرض على البرلمان، لكنهم تحدثوا بالفم الملآن دعماً للقضية الفلسطينية. وكان خطاب السوداني في القمة العربية التي عقدت في 21 تشرين الأول/أكتوبر في القاهرة أحد أقوى الخطب في إدانة أفعال إسرائيل في غزة.

من المرجح أن يستمر السوداني في السير على حبل مشدود، بالنظر إلى أن أولوياته المحافظة على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، بالدرجة الممكنة، في الوقت الذي يستمر فيه في تقديم دعم قوي للفلسطينيين والسعي لتقديم المساعدة لتلبية الاحتياجات العملية، مثل المساعدات الإنسانية. سيكون ذلك صعباً، لكن سيتمثل أحد سبل تَمكُّن حكومته من المضي في هذا المسار في استمرارها في العمل كوسيط، والاستفادة من العمل الذي قامت به في الخليج في السنوات الأخيرة، حيث كانت وسيطاً بين إيران والسعودية، وفي الوقت نفسه حسَّنت علاقاتها مع مصر والأردن. كما تستطيع أن تكون محاوراً بين الدول العربية وإيران. ويمكن أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة لدول أخرى. حيث بعثت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، رسائل إلى طهران عبر بغداد.

لكن قد لا يتمكن السوداني من السيطرة على أفعال فصائل المقاومة الإسلامية إذا رد حزب الله على غزو بري إسرائيلي في قطاع غزة بفتح جبهة أخرى على حدود إسرائيل مع لبنان. من المرجح أن يشهد مثل هذا السيناريو هجمات تشنها المجموعات العراقية على أصول أميركية في العراق وسورية. وقد تتحرك مجموعات ذات خبرة خاصة نحو لبنان لدعم حزب الله لوجستياً. لكن ورغم الخطاب العدواني الذي تستعمله المجموعات العراقية المسلحة، فإنها لا تبدو ميالة حالياً إلى تضخيم دورها بطريقة قد تعرض سلطتها في الحكم للخطر أو تجتذب رداً أميركياً أو إسرائيلياً في العراق (أو في سورية) – الأمر الذي يدفع إلى تصعيد لا يريده أي من الطرفين. في 2 و3 تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت المقاومة الإسلامية بيانات تعلن فيها مسؤوليتها عن ضربات على أهداف إسرائيلية. إلا إن هذه قد تكون إعلان نوايا، بالنظر إلى أنه لم يؤكَّد حدوث مثل هذه الهجمات.

اليمن

لقد سلَّطت أزمة قطاع غزة الضوء على مجموعة في اليمن، في الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة العربية. فإن حركة المتمردين الحوثيين (التي تسمي نفسها أنصار الله)، التي أخرجت الحكومة المعترف بها دولياً من العاصمة صنعاء في عام 2014، هي عضو آخر في "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. فقد أعلن عبد الملك الحوثي، زعيم الحركة، وشخصيات رئيسية أخرى عن استعدادها للقيام بعمل عسكري إذا تدخلت الولايات المتحدة بقوة السلاح إلى جانب إسرائيل.

لقد وفّرت إعادة إشعال فتيل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني فرصة للحوثيين لتعزيز ثلاث نقاط جوهرية لأجندتهم السياسية. تتمثل الأولى بالتزامهم بالقضية الفلسطينية. بالنظر إلى التعاطف واسع النطاق مع الفلسطينيين في اليمن، فإن الحركة ترى في اتخاذ موقف قيادي في الدفاع عن تلك القضية طريقة لتوسيع قاعدتها الشعبية. والنقطة الثانية هي أن الحوثيين باتوا مرتبطين على نحو أقوى بنظرائهم في "محور المقاومة"، حيث يبدو أن البيانات الأخيرة تعكس تنسيقاً كاملاً في العمليات العسكرية. ومع تفاخرهم بهذه العلاقة المتنامية، يطرح الحوثيون أنفسهم للمرة الأولى لاعباً خارج ساحتهم الجغرافية المباشرة. ويبدو واضحاً أنهم يرغبون بأن ينظر إليهم ليس على أنهم متلقين للدعم من أعضاء المحور الآخرين وحسب بل كداعم فعال لمشاريعهم الإقليمية. لا شك في أن الحوثيين وشركاءهم يأملون أنهم بتعزيز شبكتهم بهذه الطريقة، يستطيعون أن يبعثوا برسالة أوضح إلى إسرائيل والولايات المتحدة بتكاليف التصعيد في غزة ومناطق أخرى في المنطقة.

يؤكد الحوثيون بوضوح لجماهيرهم المحلية والدولية على حد سواء ... بأن قوتهم العسكرية تتنامى.

النقطة الثالثة التي يؤكد عليها الحوثيون بوضوح لجماهيرهم المحلية والدولية هي أن قوتهم العسكرية تتنامى. ويدَّعون أنهم في مسار حربهم مع التحالف الذي تقوده السعودية وتدعمه الولايات المتحدة منذ عام 2015، بنوا قدراتهم إلى حد أنه بات بوسعهم قصف إسرائيل وأصول أميركية في الشرق الأوسط. من المؤكد أن فعالية أسلحة الحوثيين بعيدة المدى ما تزال غير واضحة. حتى الآن، لم تصل هجمات الحوثيين على إسرائيل إلى أهدافها أو تم إفشالها، بما في ذلك صاروخ أطلق في 19 تشرين الأول/أكتوبر اعترضته السفينة الأميركية يو. إس. إس كارني (USS Carney) في البحر الأحمر وأسقط الإسرائيليون قذيفة أُطلقت في 31 تشرين الأول/أكتوبر. إضافة إلى ذلك، فشل هجوم بالمسيرات قرب الحدود الإسرائيلية–المصرية في تشرين الأول/أكتوبر. حمَّلت إسرائيل مسؤولية المحاولة للحوثيين، وتقول مصر إن الطائرة المسيرة انطلقت من منطقة في جنوب البحر الأحمر، الأمر الذي ينسجم مع الادعاء الإسرائيلي. عند التفكير بضربات مستقبلية، من المرجح أن يحسب الحوثيون المخاطرة الماثلة في أن المزيد من التصعيد من شأنه أن يعرض للخطر موقعهم الذي يعطيهم ميزة داخل اليمن، ولا سيما على خلفية الهدنة غير الرسمية التي ما تزال قائمة ولو على نحو قلق، والمفاوضات مع السعودية بشأن وقف إطلاق نار دائم، التي من شبه المؤكد أن تنهار إذا انخرط الحوثيون في حرب أكبر في المنطقة.

دول الخليج العربية

الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وعُمان، والكويت والبحرين) منقسمة بشأن حرب غزة الأخيرة، كما هي منقسمة بشأن قضايا كثيرة.

كانت ردود الفعل الفورية على اندلاع الأعمال العدائية منسجمة إلى حد كبير مع مواقفها السابقة. فالإمارات، التي طبَّعت علاقاتها مع إسرائيل في اتفاقيات إبراهيم لعام 2020، اصطفت مع إسرائيل؛ حيث أدانت حماس لقتل وخطف مدنيين إسرائيليين، ووصف الهجمات بأنها "تصعيد جدي وجسيم". على العكس من ذلك فإن قطر التي تحتفظ بعلاقات سرية مع إسرائيل لكن تجنبت إقامة علاقات رسمية، حمَّلت إسرائيل المسؤولية عن تصعيد العنف ودعت إلى ضبط النفس. ويذكر أن الدوحة غاضبة جداً من حماس لقيامها بالهجوم؛ فقد كانت القيادة القطرية تدعم منذ وقت طويل الجناح السياسي لحماس، الذي يحتفظ بمكتب في العاصمة. أما السعودية، المركز السياسي لمجلس التعاون، التي كانت على الأقل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر تداعب فكرة التطبيع وكانت تتفاوض على الشروط مع الولايات المتحدة (التي ستكون جزءاً من أي اتفاق)، تبنت مساراً بين الطرفين. إذ أصدرت بياناً يحث على خفض التصعيد من قبل الطرفين وحماية المدنيين، بينما استذكرت تحذيراتها السابقة من أن الوضع قد ينفجر بسبب استمرار الاحتلال. كما حذر البيان من تداعيات كارثية إذا شنت إسرائيل غزواً برياً شاملاً لغزة.

لقد حولت الإمارات العربية المتحدة تركيزها من انتقاد حماس إلى انتقاد حملة إسرائيل في غزة.

لكن بعد ثلاثة أسابيع من بداية حرب غزة، تطورت مواقف دول الخليج العربية. فقد حولت الإمارات العربية المتحدة تركيزها من انتقاد حماس إلى انتقاد حملة إسرائيل في غزة. واستعملت مقعدها في مجلس الأمن الدولي لشجب إسرائيل على استعمالها قوة غير متناسبة، بينما ألغت في الداخل كثيراً من الفعاليات لإظهار دعمها للنضال الفلسطيني. كما تعمل على جمع التبرعات من أجل المساعدات الإنسانية.

لقد قامت قطر بدور الوسيط، مستفيدة من قنواتها مع إسرائيل وحماس على حد سواء. ونجحت في إطلاق سراح أربع رهائن وتوسطت في اتفاق بين إسرائيل، وحماس ومصر (بالتنسيق مع الولايات المتحدة) من شأنه أن يسمح بإخلاء حاملي جوازات السفر الأجنبية أو الفلسطينيين الذين يعانون من وضع صحي حرج من غزة. دور الدوحة أكسبها الثناء – من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وعلى نحو لافت، من مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هانيغبي. كما تلقت الإمارة انتقادات حادة من مؤيدي إسرائيل في الكونغرس الأميركي، الذين يتهمونها بإيواء وتمويل إرهابيين. وما تزال قطر تواجه دعوات من أعضاء الكونغرس لإغلاق مكتب حماس وطرد قادتها. وقد أشارت إلى أنها لا تعتزم فعل ذلك.

أبقت السعودية نفسها بعيدة عن الأضواء، واستمرت في العمل كالمعتاد باستضافة منتديات استثمارية، بدلاً من إلغائها تعبيراً عن التضامن مع الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، تشعر الرياض بالقلق بشأن التداعيات الداخلية للحرب، بالنظر إلى الاحتجاجات في المملكة وفي جميع أنحاء العالم العربي بسبب حملة إسرائيل المدمرة. ففي حين أن مواطني السعودية لم يخرجوا إلى الشوارع دعماً للفلسطينيين كما فعل العرب في أماكن أخرى في المنطقة، فإنهم يظلون في منازلهم فقط بسبب خوفهم من انتقام الحكومة. رغم ذلك، فإن الغضب الشعبي ملموس بطرق لا تستطيع الرياض عدم ملاحظتها.

يبدو أن المملكة جمدت محادثات التطبيع، رغم استمرار الضغط الأميركي، على الأقل إلى أن يهدأ غبار المعارك. يدعي البيت الأبيض أن السعودية أكدت للولايات المتحدة أنها ستستأنف مناقشة التطبيع بعد انتهاء الحرب. وإذا استؤنفت المحادثات، فإن معالجة القضية الفلسطينية – التي كانت أصلاً على قائمة رغبات الرياض من المفاوضات – ستقفز دون شك إلى طليعة القضايا التي ستعالَج.

يمكن لتصوير التطبيع على أنه وسيلة الرياض لمساعدة القضية الفلسطينية أن يمنع ردود الفعل المحلية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت المملكة تمتلك رؤية واضحة لما قد يبدو عليه الحل المرضي للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني. حتى دون مثل تلك الرؤية، يبدو أصلاً أن الرياض تدفع بقوة لاستئناف عملية السلام، فرضياً دون حماس (التي وبّختها من خلال قنوات خفية، وإن لم يكن على نحو مباشر، على الأقل ليس علناً) لكن بمشاركة السلطة الفلسطينية في رام الله.

حتى الآن، تبقى جميع دول الخليج العربية، إلا قطر، تتخذ موقف المراقب في الدراما المتوالية فصولاً.

حتى الآن، تبقى جميع دول الخليج العربية، إلا قطر، تتخذ موقف المراقب في الدراما المتوالية فصولاً. فهي قلقة بعمق بشأن احتمالات زعزعة الاستقرار الإقليمي، إن لم يكن نشوب حرب شرق أوسطية، لكنها تقتصر في تحركاتها على محاولات هادئة لإقناع إدارة بايدن بضرورة كبح جماح إسرائيل التي تستمر في هجومها في غزة.

المغرب

منذ أقامت إسرائيل والمغرب علاقات دبلوماسية في كانون الأول/ديسمبر 2020، وسَّعت المملكة على نحو مستمر علاقاتها مع إسرائيل، رغم الاحتجاجات من منظمات المجتمع المدني المؤيدة للفلسطينيين.

وقد دفع الملك بعملية التطبيع مع إسرائيل، انسجاماً مع دستور عام 2011، الذي يضع الملك بموجبه أولويات واتجاهات السياسة الخارجية للبلاد، ويقصر دور البرلمان على المصادقة على ما يراه مناسباً. سرَّع المغرب تعاونه العسكري مع إسرائيل بتوقيع مذكرة تفاهم حول مبيعات الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية. وقد اشترى وحدات دفاع صاروخي من طراز باراك إم. إكس، ونظام سكايلوك دوم المضاد للمسيرات، ومسيرات هيرون من إسرائيل. كما روجت الرباط لسردية أن البلدين يواجهان عدواً مشتركاً، متهمة حركة استقلال الصحراء الغربية، جبهة البوليساريو، بالتعاون مع حزب الله في لبنان، الذي تصنفه، مثل إسرائيل، وكيلاً إيرانياً. في تموز/يوليو، في أعقاب اعتراف إسرائيل الرسمي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، أكملت الرباط ترقية العلاقات الثنائية بين البلدين، مع أول تبادل للسفراء. لكن طوال هذا الوقت، فإن الجبهة المغربية لدعم فلسطين، وهي منظمة المجتمع المدني الرئيسية المؤيدة لفلسطين في المغرب، ومنظمات أخرى استمرت في تنظيم مظاهرات تهاجم التطبيع.

على هذه الخلفية، ومباشرة بعد هجوم حماس، تبنَّى المغرب موقفاً متوازناً بحذر يهدف إلى تجنب استعداء إسرائيل أو الفلسطينيين. في بيان أصدرته في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أدانت وزارة الخارجية المغربية الهجمات على المدنيين من قبل الجانبين ودعت إلى خفض التصعيد. في 11 تشرين الأول/أكتوبر، رأست الرباط اجتماعاً طارئاً للجامعة العربية لحشد الدعم خلف هذا الموقف. ووقَّعت أغلبية الحكومات العربية على القرار المتخذ في الاجتماع، والذي يكرر العنصرين أعلاه ويؤكد على الحاجة لإعادة إحياء عملية السلام. وحدها الجزائر، وليبيا، والعراق وسورية عبَّرت عن تحفظات بشأن لغة عملية السلام، حيث عبَّرت الجزائر عن القلق من أنها بدت على أنها تساوي بين "حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف بتقرير المصير" بـ"ممارسات الكيان الصهيوني [إسرائيل] التي تنتهك مواثيق وقرارات الشرعية الدولية".

دفعت الظروف المتردية بسرعة في قطاع غزة منظمات المجتمع المدني المغربية إلى الخروج إلى الشوارع للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين.

لكن بعد ذلك بوقت قصير، دفعت الظروف المتردية بسرعة في قطاع غزة منظمات المجتمع المدني المغربية إلى الخروج إلى الشوارع للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. ودفع الحكومة إلى التخلي عن محاولات المحافظة على التوازن الدبلوماسي لصالح موقف أكثر دعماً للفلسطينيين. في 15 تشرين الأول/أكتوبر، خرجت الجبهة المغربية لدعم فلسطين في مظاهرة حاشدة في الرباط، بمشاركة ما يقدر بـ300,000 شخص يطالبون بوقف الحملة العسكرية الإسرائيلية وإغلاق السفارة الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، خرجت مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد يومياً تقريباً، حيث تضم الحشود مغاربة من جميع أجزاء الطيف السياسي، بما في ذلك ناشطين إسلاميين ويساريين. وكإجراء احترازي، أخلت إسرائيل سفارتها في الرباط في 18 تشرين الأول/أكتوبر.

لقد تساهلت السلطات حتى الآن مع هذا التحشيد، بينما تجاهلت الدعوات لوقف التطبيع مع إسرائيل. تبقى قرارات السياسة الخارجية الكبرى حصرياً بيد الملك، والتطبيع مع إسرائيل خيار إستراتيجي يعزز الموقع الدبلوماسي المغربي في صراع الصحراء الغربية، الذي يبقى الأولوية القصوى للحكومة. كما أنه يعزز الأمن الوطني المغربي، من وجهة نظر النظام الملكي، بتوفير فرصة للرباط بتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة جبهة البوليساريو وداعمتها الرئيسية، الجزائر. إلا إن مزيداً من التدهور في الوضع الإنساني في قطاع غزة أو تصعيداً إقليمياً من شأنه أن يثير التوترات في المغرب بإبراز التباين المتزايد بين المشاعر الشعبية الداعمة للفلسطينيين وأولويات السياسة الخارجية للرباط. وفي حين أن حشداً قوياً من شأنه أن يجبر الحكم الملكي على تعليق أو تجميد الحوار الدبلوماسي المفتوح مع إسرائيل، من غير المرجح أن يستسلم الملك للمطالبات بإعادة النظر في اتفاق التطبيع الذي ما يزال يرى أنه لمصلحة البلاد.

تونس

في تونس، أعادت الأزمة الراهنة إيقاظ المشاعر المعادية لإسرائيل وعززت من شعبية الرئيس قيس سعيِّد على نحو كبير. قبل ذلك، كان الرئيس يتبنى خطاباً شعبوياً بوحي من مزيج من المعالجات القومية العربية، والأفكار اليسارية ونظريات المؤامرة المعادية للغرب. وأضاف الآن إلى كل ذلك القضية الفلسطينية. في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أصدر سعيِّد بياناً يعبر فيه عن "تضامنه الكامل وغير المشروط مع الشعب الفلسطيني" ودعا "المجتمع الدولي ... لوضع حد للاحتلال الغاشم لكل فلسطين".

في 16 تشرين الأول/أكتوبر ... دعا البرلمانيون التونسيون بالإجماع إلى تصويت عاجل على قانون يجرِّم أي محاولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

في إصداره هذا البيانات وبيانات مماثلة، كان الرئيس يركب موجة الغضب الشعبي على إسرائيل وداعميها الغربيين، ويشجع المزيد من ذلك. تبعت ذلك موجة من الاحتجاجات ضد الدعم الغربي لإسرائيل. في 12 تشرين الأول/أكتوبر، خرج الآلاف في مظاهرة في تونس، تلبية لدعوة من نقابة العمال الرئيسية، الاتحاد العام التونسي للشغل، وعدد من منظمات المجتمع المدني. بعد ثلاثة أيام، نظمت جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة، الذي يقبع قادتها الرئيسيون في السجن بتهم التآمر على تقويض أمن الدولة، مظاهرة لإدانة الدعم الفرنسي والأميركي "غير المشروط" لإسرائيل. وفي 16 تشرين الأول/أكتوبر، وفي جلسة خاصة، دعا البرلمانيون التونسيون بالإجماع إلى تصويت عاجل على قانون يجرِّم أي محاولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. (واجتمعت الهيئة التشريعية في الجزائر المجاورة للهدف نفسه أيضاً.)

قد يكون جزء من دوافع سعيِّد لاتخاذ هذا الموقف الحاد وإثارة الغضب الشعبي صرف الانتباه عن الأحوال الاقتصادية السيئة في البلاد. (على العكس من ذلك، فإن الجزائر – ورغم أن خطابها مؤيد جداً للفلسطينيين – فرضت ضوابط صارمة على المظاهرات، خشية أن تخرج عن نطاق سيطرة الدولة.) تعاني تونس من معدلات فقر وبطالة مرتفعة. كما إنها ترزح تحت عبء ديون خارجية كبيرة جداً قد تتخلف عن سدادها في عام 2024 أو2025. وقد انخرطت الحكومة في مفاوضات إشكالية مع صندوق النقد الدولي على قرض من شأنه أن يساعدها في الاحتفاظ ببعض الملاءة المالية، لكن من غير المرجح أن تنجَز هذه الصفقة بالنظر إلى أن المفاوضات توقفت؛ لا تذكر الموازنة المالية لعام 2024 التي يتم تداولها في تونس صندوق النقد الدولي كمصدر خارجي للتمويل.

كما يوجَّه الغضب الشعبي حيال إسرائيل أيضاً إلى الأقلية اليهودية في تونس. إذ خرَّبت الحشود نصباً يرتبط بتلك المجموعة، التي يبلغ عدد أفرادها نحو 1,500 شخص، وفي حادث منفصل أحرقت ضريح الحاخام يوسف المعرابي الذي يعود إلى القرن السادس عشر، في جنوب البلاد.

كما استهدف المحتجون البعثات الدبلوماسية لحلفاء إسرائيل الغربيين، ولا سيما فرنسا، وألمانيا والولايات المتحدة. في 17 تشرين الأول/أكتوبر، وبعد انفجار مميت في المستشفى الأهلي في مدينة غزة، خرج آلاف التونسيين، بمن فيهم أعضاء في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من جميع أجزاء الطيف السياسي، في مظاهرة إلى السفارة الفرنسية. أدان المتظاهرون وسائل الإعلام الفرنسية لتحيّزها المزعوم لصالح إسرائيل ودعوا إلى طرد السفيرين الفرنسي والأميركي. في الأيام التي تلت، خرج مزيد من المظاهرات، بما في ذلك بعض تلك التي دعت إلى طرد السفير الألماني، الذي كان قد أعلن في خطاب بُث على الإذاعة الوطنية أن الإسرائيليين كانوا ضحايا "الإرهاب الفلسطيني". كما أقام عشرات المتظاهرين اعتصامات أمام المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في تونس، ورددوا شعارات معادية لفرنسا.

في رسائلها للجهات الفاعلة الخارجية، تبنت تونس موقفاً متشدداً معادياً لإسرائيل. ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر أعلن سعيِّد أن "الكيان الصهيوني" – وهو مصطلح يستعمل في وصف إسرائيل من قبل دول أخرى معادية للتطبيع مثل الجزائر، وليبيا وسورية – تجاهل "حقوق الإنسان وارتكب فظاعات بينما يتظاهر بأنه ضحية أمام العالم". ثم دعا "جميع الشعوب والأحرار في جميع أنحاء العالم الذين يؤمنون بالقيم الإنسانية العالمية إلى العمل لوضع حد لجرائم الحركة الصهيونية العالمية". وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر، وعلى عكس تصويت الجزائر دعماً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي لهدنة إنسانية فورية في غزة، امتنعت تونس عن التصويت. وقال طارق الأدب، الممثل الدائم لتونس في الأمم المتحدة: إن الوضع "الجسيم وغير المسبوق" في غزة يتطلب موقفاً "أكثر وضوحاً" مما جاء في القرار.

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.