Government soldier stands guard at Marib’s Mahram Belqis, 170km east of the capital Sanaa. CRISISGROUP/Peter Salisbury
Our Journeys / Middle East & North Africa 15 minutes

خلف خطوط الجبهة في مأرب اليمنية

قبيل اندلاع معارك كبرى شمال اليمن وتفشي جائحة كوفيد–19، سافر الخبير في مجموعة الأزمات بيتر سالزبوري إلى مأرب، آخر معاقل الحكومة. ووجد منطقة تتكيف بشكل جيد مع عمليات النزوح الهائلة لكنها تخشى تسوية تكون لصالح الحوثيين الذين يتقدمون نحوها.

أجرت مجموعة الأزمات الدولية العمل الميداني لمقالة "رحلاتنا" هذه قبل جائحة كوفيد-19. ربما تغيرت بعض الديناميات التي تمت ملاحظتها في هذا التقرير في الوقت الراهن. للمضي قدمًا، سنقوم بتحليل عوامل تأثير الوباء في أبحاثنا وتوصياتنا، بالإضافة إلى تقديم تغطية مخصصة لكيفية تأثير الجائحة على النزاعات حول العالم.

بعد مضي خمس سنوات على انطلاق الحرب الأهلية في اليمن، كان الدخول إلى البلاد يشكل صراعاً طويلاً وصعباً، كما هو الحال عادة بالنسبة لأجنبي مثلي. قضيت الشهور التي سبقت السفر في القيام بمراجعة الأجهزة البيروقراطية للحصول على تأشيرة دخول حكومية، وقضيت ليالي في حالة من الأرق بانتظار التصاريح الأمنية التي تُطلب في آخر لحظة. ولذلك شعرت بالارتياح عندما تمكنت أخيراً من الانضمام إلى الدردشة وأخذ صور السيلفي مع اليمنيين المصطفين بانتظار دورهم للصعود إلى الطائرة التي ستقلّنا من القاهرة إلى سيئون، حضرموت، عشية رأس السنة الجديدة.

وقد كانت الأيام الثمانية القادمة بمثابة فرصة ثمينة لزيارة جزء من اليمن لم أكن قد رأيته منذ عقد من الزمن، منذ الأيام التي سبقت انتفاضة العام 2011 والتي أطاحت بالرئيس السابق علي عبد الله صالح. اليمن، الذي كان منقسماً دائماً، تشظى على مدى الصراع. قبل الثورة، التي سبقت الفترة الانتقالية الفاشلة بين عامي 2012 و2014 والحرب الأهلية الراهنة، كان من السهل نسبياً التنقل من منطقة من البلاد إلى منطقة أخرى. لم يعد الأمر كذلك. بل إن العاصمة صنعاء ومدينة عدن الساحلية تبدوان كمدينتين في بلدين مختلفين. الحرب مستعرة إلى درجة أن هناك مناطق في البلاد تنتقل من سيطرة طرف إلى سيطرة طرف آخر مرات في الشهر الواحد.

أن يُقال لك إن الأمور طبيعية شيء وأن تشعر بذلك بنفسك شيء آخر.

كنت أجري بحثاً لتقرير جديد حول كيفية إنهاء الحرب، وبالتالي كنت بحاجة للتحدث إلى أكبر عدد ممكن من الأطراف على الأرض. منذ أواخر العام 2018، سافرت إلى خطوط جبهة الحرب على الساحل الغربي، وإلى عدن التي يدور صراع حولها وإلى صنعاء في المرتفعات الشمالية التي يسيطر عليها الحوثيون. الآن أردت الوصول إلى مأرب، آخر المعاقل الرئيسية التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً. على مدار الحرب، كانت مأرب قد أصبحت ملاذاً للمهجرين داخلياً ومركزاً اقتصادياً. بعد أسابيع قليلة من وصولي إلى هناك أطلق الحوثيون هجوماً كبيراً على مواقع الحكومة في الشمال، فسيطروا على عاصمة محافظة الجوف شمال مأرب قبل الزحف نحو مدينة مأرب والمنشآت النفطية والغازية المجاورة لها. خشية أن يجعل القتال من الصعب إنهاء الحرب، وخوفاً من أن فيروس كوفيد–19 قد يصل قريباً إلى اليمن، دعا الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش إلى وقف لإطلاق النار على مستوى البلاد في 25 آذار/مارس.

لكني لم أكن أعرف عن القتال أو عن أن الجائحة ستحل في موعد رحلتي، وبالتالي كنت أركز على مهمتي المباشرة، أي الوصول إلى اليمن. كانت الخطوط الجوية اليمنية قد حذرتني من أن الطائرة ستكون مزدحمة؛ فمقابل 1,000 دولار لرحلة ذهاب وعودة من أحد أفقر الأماكن على وجه الأرض، ليس من المفاجئ أن يستغل اليمنيون الذين يسافرون ويعودون، والعديد منهم لأغراض المعالجة الطبية، الرحلة إلى أقصى درجة ممكنة. بدا أن الجميع ملأ عربات نقل الأمتعة إلى أقصى طاقتها بالصناديق، والأغطية والحقائب الكبيرة. وكان من المذهل أن تتمكن الطائرة المنهكة من الإقلاع بتأخير لم يتجاوز 45 دقيقة فقط.

منحدرات صخرية وناطحات سحب مبنية بالآجر الطيني في شبام. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

وصلنا بالسلامة إلى سيئون. حتى الآن، نادراً ما لامست الحرب حضرموت، المحافظة الشرقية التي تعد هذه المدينة جزءاً منها. ناطحات السحاب الأنيقة المبنية بالآجر الطيني في شبام المجاورة، والمساحات الخضراء والمنحدرات الصخرية الحادة المحيطة بنا من كل مكان ذكرتني بكل ما هو جميل في اليمن.

في الطريق إلى مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

لم يكن لدي وقت للتأمل؛ إذ كان يترتب علينا الانطلاق إلى الصحراء المفتوحة لقطع المسافة البالغة 440 كم إلى مأرب، التي ينتشر عليها العديد من نقاط التفتيش.

فطور مع حراس مسلحين. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

على الطريق، بدا أن هناك مرافقة تتكون من حراس مسلحين أرسلها محافظ مأرب لترافقنا على طول الطريق الصحراوي. كان لا يزال الوقت مبكراً، وتوقفوا لتناول الفطور. ارتشاف الشاي الساخن جداً بنكهة الهيل وتناول الكبدة والبيض بالخبز المشروح الطازج ساعدني على التكيف مع حقيقة أنني عدت إلى اليمن فعلاً؛ إذ كان الوضع مختلفاً جداً عن الاجتماعات التي عقدتها مع سياسيين في فنادق ومقاهي القاهرة في طريقي إلى اليمن.

مشهد ليلي في أحد شوارع مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

مع ارتقاء سيارتنا للطريق الصاعد من الصحراء إلى التلال ودخولنا مدينة مأرب، فوجئت بدرجة النشاط التي أصبح عليها هذا المركز النائي الذي كان يسوده الهدوء والكسل فيما مضى. البلدة التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز 30,000 نسمة قبل بداية الحرب في العام 2015 اتسعت لتصبح مدينة تقول السلطات المحلية إن عدد سكانها يبلغ الآن 1.8 مليون نسمة. يعتقد أن عدد سكان المحافظة ازداد بمعدل عشر مرات، من 300,000 إلى ثلاثة ملايين نسمة. وتقدر المنظمة العالمية للهجرة أن 800,000 شخص هربوا من القتال في أجزاء أخرى من البلاد أتوا إلى هنا بحثاً عن ملاذٍ آمن.

وأخبرني الجميع أن إيقاع التغيير تسارع على مدى العامين الماضيين مع تحسن الوضع الأمني وشروع الاقتصاد بالنمو، يغذيه تدفق الأموال من أجزاء أخرى من البلاد والعائدات من مبيعات نفط وغاز المحافظة في سائر أنحاء اليمن. مأرب، البلدة التي كان يشقها طريق واحد وفيها مطعم واحد انتشرت فيها الفنادق في أماكن بارزة، والمصارف الخاصة، ومراكز التسوق الكبيرة، والطرق السريعة بأربع مسارات، وجامعة، وملعب كبير لكرة القدم وعدد كبير من المطاعم، بما في ذلك فروع مؤسسة الشيباني الشهيرة للمطاعم. وأعلنت السلطات عن إنشاء مطار دولي جديد في اليوم التالي لوصولي.

لا تبعد مأرب عن خطوط الجبهة سوى نصف ساعة، الأمر الذي يبدو أنه يعزز شعوراً متميزاً بالفخر لدى أهل المدينة. كان الناس متشوقين لإخباري عن نمو المدينة وهدوئها النسبي. حلفاء الحكومة والسلطات المحلية (الذين أراد كل منهم أن يعزو الفضل لنفسه في نجاح مأرب) أكدوا على نقطة أن المدينة جزيرة من الاستقرار والحوكمة الرشيدة وسط فوضى الحرب الأهلية.

أن يُقال لك إن الأمور طبيعية شيء وأن تشعر بذلك بنفسك شيء آخر. رغم أن مشهدي كان نادراً كأجنبي في المنطقة، فإني لم أشعر بأي تهديد أو بدرجة كبيرة بالفضول حيال وجودي هناك. بل إني كنت قادراً على التمشي لمسافات قصيرة إلى المقاهي والمطاعم ليلاً، وهو أمر كان قد أصبح مستحيلاً تقريباً بالنسبة لي منذ بداية الحرب في أماكن أخرى من البلاد، إما بسبب غياب الأمن أو بسبب الممارسات ثقيلة الوطأة لحفظ الأمن من قبل السلطات المحلية.

الفريق الركن محمد المقدشي، وزير الدفاع في الحكومة اليمنية. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

كان أحد أول الأشخاص الذين التقيتهم في مأرب الفريق الركن محمد المقدشي، وزير الدفاع في الحكومة اليمنية. بعد تدخل السعودية في الحرب الأهلية الناشئة في آذار/مارس 2015، كان جزءاً من مجموعة صغيرة من الضباط الذين تطوعوا لإعادة بناء الجيش اليمني لمحاربة الحوثيين. انشقت أعداد كبيرة من الجيش والأجهزة الأمنية لتلتحق بالحوثيين في بداية الصراع، ولم يكن هناك توجيه يذكر للجنود الذين عارضوهم. بالتعاون مع الزعماء القبليين، ساعد المقدشي في الدفاع عن مأرب، وفي الفترة 2015-2016، صد الحوثيين باتجاه صنعاء، التي تقع على بُعد 170 كم غرباً. يتخذ وزير الدفاع من مبنى مكيَّف متواضع مقراً له مع وجود سيارات دفع رباعي وسيارات بيك آب محملة برشاشات في الخارج.

يستهدف الحوثيون بشكل متكرر الأبنية العسكرية بالصواريخ، ولذلك سرعان ما انتقلنا إلى منزل الفريق لتناول الغداء. ناقشنا الوضع في اليمن حتى وقت متأخر من بعد الظهر. وأشار إلى شخصيات من بين الحوثيين يمكن أن يكونوا شركاء في صنع السلام وإلى مدى أهمية أن يكون هو موجوداً في اليمن. الوزراء الآخرون موجودون إما بعيداً عن الجبهة أو في العاصمة المؤقتة، عدن، أو خارج البلاد. ومعظمهم يقضون وقتهم في القاهرة والرياض.

مأرب والجوف محوريتان لفهم المصالح المختلفة للمزيج من القوى التي تحارب الحوثيين، وقدراتهم ووجهات نظرهم. دون أخذ هذه المسائل بعين الاعتبار، من غير المرجح لأي عملية سلام أن تنجح.

المركز السابق لمملكة سبأ، التي تعود إلى حقبة ما قبل الإسلام ومركزسيطرة الملكة الأسطورية بلقيس، مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

كانت أيام عملي تتضمن التنقل المستمر بين الفنادق، والمكاتب والمنازل من أجل الاجتماعات. صباح يوم الجمعة، لم يكن هناك اجتماعات وقررت القيام بجولة على المواقع المهمة في مأرب، التي كانت حتى أواسط العقد الأول من الألفية مقصداً يحظى بالشعبية لدى السواح الذين يزورون اليمن. المرة الأخيرة التي كنت فيها هنا، كنت آمل باكتشاف المزيد عن هذا المركز السابق لمملكة سبأ في حقبة ما قبل الإسلام ومقر الملكة بلقيس الأسطورية. إلا أن قوات الأمن المحلية أعادتني إلى صنعاء، بسبب قلقها من أن أُستهدف من قبل فرع القاعدة المحلي – وهو تهديد يقول السكان إن النظام السابق بالغ به من أجل إحكام قبضته على المحافظة وموارد النفط والغاز المهمة فيها. هذه المرة، كان حظي أفضل. فقد زرت المكان الذي يقال إن الملكة بلقيس دفنت فيه ومعبد إله القمر الذي كان يعبده السبئيون. لم أكن الزائر الوحيد؛ فقد كان هناك عدد كبير من السواح اليمنيين أيضاً.

سد مأرب، الذي يبعد عشرين دقيقة عن خطوط الجبهة. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

كما تعرف مأرب بسدها العظيم. ورغم أنه لا يبعد سوى 20 دقيقة بالسيارة عن خطوط الجبهة، فقد كان واضحاً صبيحة يوم الجمعة الذي زرته فيه أنه يستمر في اجتذاب مجموعات كبيرة من الزوار.

كان السد الأصلي أحد دعامات مملكة سبأ، لكنه انهار نحو العام 570 م، ودمرت المياه المتدفقة منه المنطقة. يُقال إن أسلاف أسرة نهيان، الأسرة التي أسست إمارة أبو ظبي الخليجية، هاجرت من منطقة مأرب في هذا الوقت. في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، سدد الشيخ زايد، أمير أبو ظبي ومؤسس الإمارات العربية المتحدة، دين أسرته للتاريخ بتمويل بناء السد الذي نراه اليوم.

قبل الحرب، كان سد مأرب يجتذب الزوار من اليمن، والخليج وباقي أنحاء العالم. وفوجئت عندما وجدت أنه ما يزال مقصداً لليمنيين أيام العطل. التقيت بأسر أخبرتني أنها قطعت براً مسافة 570 كم من منطقة إب التي يسيطر عليها الحوثيون في وسط اليمن لقضاء العطلة هنا. السكان المحليون، كالرجال الذين يظهرون في هذه الصورة، يحبون أيضاً الاسترخاء في مياه السد الباردة في يوم قائظ من أيام كانون الثاني. جزء كبير من عملي يركز على انقسام اليمن، وقد ذكّرني هذا المشهد وأحاديث أخرى إلى أي حد ما يزال الناس العاديون يشعرون بأن البلد كيان واحد ذو تاريخ وثقافة مشتركين.

بيت يمني تقليدي من الآجر الطيني في صرواح . مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

هذا البيت اليمني التقليدي في صرواح، قرب السد، تظهر عليه آثار الرصاص من القتال الذي جرى في العام 2015. لم أتوقف هنا، لكني قضيت على مدى سنوات بعض الوقت في بيوت كهذا البيت، بيوت باردة بشكل منعش في يوم حار. تنعكس أشعة الشمس الغاربة من خلال القمريات، وهي النوافذ المصنوعة من الزجاج الملون على شكل نصف قمر في الطابق العلوي، ما يضيف إلى متعة اللقاءات الاجتماعية.

تسمح لي اللقاءات الاجتماعية الطويلة ببناء الثقة، ومقابلة أشخاص لهم وجهات نظر مختلفة والتوصل إلى فهم أعمق للحرب التي باتت تشمل روايات متعددة الطبقات. إن طيفاً واسعاً من الأشخاص المنقسمين عادة يمكن أن يجتمعوا خلف الأبواب المغلقة.

أحد تلك اللقاءات التي أجريتها خلال هذه الزيارة شملت أعضاء في الحزب الحاكم السابق، المؤتمر الشعبي العام؛ وقوميون علمانيون آخرون مثل الناصريين؛ وأعضاء في حزب الإصلاح، المظلة الواسعة التي تشمل أعضاء الإخوان المسلمين والمحافظين، ومجموعات دينية وقبلية؛ وسلفيين متدينين محافظين؛ واشتراكيين أيضاً. في أوقات أخرى، التقيت بمجموعات من زعماء القبائل والقادة الحكوميين، ومسؤولين عسكريين واقتصاديين.

حارس يمضغ القات. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

في العديد من المرات، وفي فترات ما بعد الظهر، كنا نمضغ القات، وهي أوراق خضراء من نبات يؤخذ من نبتة هي بين الشجرة والشجيرة. تُحدث هذه الممارسة شعوراً لطيفاً بالنشاط والحيوية، وتؤدي إلى ارتفاع تدريجي في حدة النقاش. إنها تجربة تشاركية؛ حيث تتاح فرصة الحديث للجميع.

بصراحة، لم أكن أستسيغ القات عندما وصلت إلى اليمن في البداية كصحفي في العام 2009 أو عندما عشت هناك لنحو عام ونصف العام في الفترة 2013 و2014. لكن في هذه الزيارات التي بذلت جهداً كبيراً للقيام بها، بتُّ أقدر فعلاً الانفتاح والشعور بالوجود في جماعة الذي يمنحه مضغ القات.

في الصورة هنا حارس أحد الشيوخ البارزين في محافظة الجوف. خلال اجتماع مع القادة السياسيين والقبليين المحليين، شعرت بكامل قوة المعارضة للتوصل إلى اتفاق مع الحوثيين. بعض قبائل الجوف تحارب الحوثيين منذ العام 2009 (في البداية كجزء من صراع المتمردين المتقطع مع الرئيس المخلوع صالح ومن ثم كجزء من حربهم مع الحكومة التي خلفته). بعد أكثر من عقد من القتال، يخشى كثيرون في المحافظة من أن تسوية سياسية مستقبلية ستكون لصالح الحوثيين، الذين ظهروا بوصفهم المجموعة العسكرية الأكثر قوة على الأرض. وهم يصورون الحوثيين على أنهم القوة التوسعية التي ترغب باستعادة الحكم الاستبدادي الديني للإمامة التي سيطرت على شمال اليمن حتى ستينيات القرن العشرين (الحوثيون ينكرون مثل هذه الاتهامات).

جامعة سبأ الإقليمية تتوسع، مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

على الطرف الغربي لمأرب، في جامعة سبأ الإقليمية، ترتفع الأبنية بالسرعة التي تستطيع السلطات المحلية إدارتها من أجل تلبية الطلب على التعليم العالي في المنطقة. ويعد توسع الجامعة جزءاً من توسع عمراني عام مدفوع بالدخل المتولد من سيطرة المحافظة على حقول النفط والغاز وتدفق الناس من أجزاء أخرى من البلاد – بعضهم فقير، وبعضهم غني.

جندي حكومي في إحدى الضواحي الجديدة خارج مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

جندي حكومي في إجازة من الجبهة يقف في واحدة من الضواحي الجديدة التي بدأت تظهر خارج مأرب. بيته جزء من مخيم كبير للمهجرين، هو مخيم الجفينة، حيث اجتمعتُ بأفراد من قبيلة حجّور التي حاربت الحوثيين وخسرت في مطلع العام 2019. رؤية حزنهم وأساهم، والاستماع إلى أنهم لا يتوقعون أن يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم، أقنعني مرة أخرى بأهمية تسوية هذا الصراع وغيره.

نقطة تفتيش بين مأرب، والجوف وصنعاء. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

يشكل السفر في مناطق مختلفة من اليمن تحدياً كبيراً، حتى في المناطق الواقعة اسمياً تحت سيطرة موحدة. رتبت لزيارة الحزم، عاصمة محافظة الجوف. لكن في منتصف الطريق إلى هناك، أوقفتني إحدى نقاط التفتيش عند مفترق الطرق إلى مأرب، والجوف وصنعاء. وبانتظار التصريح بقطع حدود المحافظة، جلسنا في الشمس لمدة ساعة.

كان لدى الرجال الواقفين على نقطة التفتيش ما يدعوهم للقلق. فبعد أسبوعين من توقفنا هناك، سيطر الحوثيون على نقطة التفتيش هذه في واحدة من أسوأ مراحل القتال في السنوات الأخيرة.

الطريق إلى الحزم. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

في تناقض صارخ مع الجبال الخضراء في مأرب والحقول المدارة بعناية، كانت سلة الخبز السابقة لشبه الجزيرة العربية، أي جزء كبير من مسافة الـ 170 كم التي يقطعها الطريق صحراء منبسطة تملؤها الحجارة. اليمن بلد يحتوي على تناقضات جغرافية، فحتى الصحراء هنا فيها بعض البلدات والقرى القديمة جداً. وسط هذا التنوع والجمال، ودون وجود جندي على مد النظر، شعرت أحياناً بأن الحرب تجري في عالم موازٍ. لكن بعد أسبوعين من مروري على هذا الطريق، كانت المنطقة فعلياً مسرحاً لأشد مراحل القتال.

الموتورات في الحزم. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

بدت الحزم نشطة وحيوية بعد ساعات قضيناها في الطريق عبر الصحراء. في بعض المدن الكبيرة، مثل عدن وصنعاء، حظرت السلطات الدراجات النارية التي تعمل في خدمة التاكسي كهذه التي نراها في الصورة، بالنظر إلى أنها وسيلة النقل المثالية لعمليات الاغتيال الخاطفة. لكن في مدن صغيرة مثل الحزم ومأرب، التي نجت من عنف الحرب الأهلية لمدة طويلة، فإنها تعد جزءاً طبيعياً وملوناً في كثير من الأحيان لحياة الشارع هنا. بعد أقل من شهرين على زيارتي، سيطر الحوثيون على المدينة.

صباح السويدي، ممثلة عن رابطة أمهات المختطفين. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

في مأرب، التقيت نساء يمثلن رابطة أمهات المختطفين. تتعقب هذه المجموعة النسائية المدنيين الذين تقول إنهم محتجزون بشكل قسري في سائر أنحاء اليمن وتدعو إلى إطلاق سراحهم. "ننظم احتجاجات في سائر أنحاء البلاد"، على حد تعبير صباح السويدي.

يقول الناس في المدينة إن للهجرة أثر تحرري على المجتمع، حيث تسمح للنساء المتعلمات مثل صباح بقيادة منظمة غير حكومية، وهو أمر كان يعد غير مقبول هنا قبل الحرب. إن عدد النساء في جامعة سبأ الإقليمية أكبر من عدد الرجال.

لقد منحني التحدث إلى النساء الناشطات محلياً وكذلك إلى الرجال الذين يحملون البنادق شعوراً بالتحديات الأكبر وبتفاصيل العملية الحقيقية لبناء السلام التي سيتطلبها بلد مثل اليمن، بعيداً عن سياسات القوة والسلطة. إن اليمنيين لا يتطلعون فقط إلى وقف إطلاق النار؛ بل إنهم يريدون أن تخضع مؤسسات الدولة مثل الشرطة والمحاكم للمساءلة أمام الناس العاديين.

ياسمين القاضي، رئيسة مؤسسة فتيات مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

كما التقيت ياسمين القاضي، رئيسة مؤسسة فتيات مأرب. وصفت عمل مجموعتها في تدريب الأشخاص على التوسط في الصراعات. وروت كيف أنها قادت مجموعة من النساء لتسوية صراع على السيطرة على المقر المحلي لوزارة الكهرباء.

إن هذا النوع من عمليات صنع السلام حيوي. من المرجح أن القتال الذي شمل الجوف ومأرب بعد مغادرتي بدأ بنزاع قبلي محلي.

لقد بات من الواضح على نحو متزايد أن وقف الحرب لن يحقق السلام بشكل تلقائي لليمن. إذ إن هناك عدم تواصل بين السياسيين العاملين على المستوى الوطني والمجموعات المسلحة التي تسيطر على الأمور على الأرض – وبين هاتين المجموعتين من اللاعبين والمجتمع بشكل عام. إن تسوية لا يتم بناؤها بعناية يمكن أن تنشر بذور صراع مستقبلي.

الجوبة، جنوب مأرب. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

أردت زيارة الجوبة، جنوب مأرب، حيث قيل لي إني سأحصل على منظور جديد للحياة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة. استغرق الأمر ساعات للتفاوض على خروجي من مأرب. مرت سيارتنا عبر جبال خشنة شديدة الانحدار وأودية خضراء، وخرجنا عن الطريق للوصول إلى بيت أحد كبار القادة من قبيلة مُراد.

كان الشيخ من منتقدي القيادة المحلية في مأرب، التي يعتقد على نطاق واسع أنها قريبة من حزب الإصلاح، الحزب السياسي الإسلامي السني، والتي قال إنه يجمد الأصوات المستقلة كصوته. وهو ليبرالي بمعايير مأرب؛ حيث إن بناته ناشطات في منظمة غير حكومية ودرسن في جامعة صنعاء عندما كانت العديد من الشابات في المنطقة لا يحصلن سوى على تعليم أساسي. وشكك بالكثير مما قاله العديد من الأشخاص الذين التقيتهم عن التماسك السياسي في مأرب، ما يزيد صعوبة الخروج باستنتاجات واضحة من عملي الميداني لكنه يضيف قدراً ضرورياً من المعرفة حول التباين في الآراء.

كان الظلام قد بدأ يرخي بظلاله، وكان يتوجب علينا الرحيل، بالنظر إلى أخطار قيادة السيارة في الليل، حيث تقع حوادث السير بانتظام مقلق. لكن مضيفي أصر على البقاء لتناول العشاء قائلاً إن الأمر لن يستغرق سوى وقت قصير. بعد ساعة، وضعت وجبة سخية من الأرز، ولحم العجل وعدد من أطباق الطعام الأخرى أمامنا.

أغصان القات المرمية بعد لحظة مشاركة في مضغ القات. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

اقتربت رحلتي من نهايتها، لكني كنت بحاجة للمزيد من الوقت. كما يحدث في كل رحلة، شعرت بأني قد بدأت للتو بالحصول على نظرات معمقة إلى الصراع اليمني المعقد بشدة والتي من المستحيل الحصول عليها من الخارج.

في أوج جلسة مضغ القات، يجد المجتمعون حلولاً لجميع مشاكل العالم. لكن في معظم الأحيان لا يقوم أحد بكتابة تلك الحلول، ناهيك عن تنفيذها. كل ما يبقى بعد تلك الجلسات هي عيدان القات المرمية على الأرض وعبوات المياه الفارغة. ما كنت أخشاه هو أنني عندما أعود إلى مطار القاهرة، سأشعر كما لو أني استيقظت من حلم.

منظر مأرب ليلاً. مجموعة الأزمات/بيتر سالزبوري

رغم ذلك، ففي أكثر من أسبوع بقليل، أجريت عدداً كبيراً من المقابلات مع أكثر من 40 شخصاً، وقضيت أياماً على الطرق في الصحارى والجبال، ورغم جميع الامتيازات التي حظيت بها من الحراس كزائر أجنبي، رأيت تحديات الحياة اليومية. كنت أستطيع أن أميَّز إشارة وسط كل الضجيج. الآن بت أعرف ليس فقط ما يقوله الناس وما يفكرون به، بل أيضاً لماذا يفكرون به. لقد كانت الرسالة الواضحة من مأرب هي الخشية من أن تتوصل السعودية إلى صفقة مع الحوثيين لا تأخذ المصالح المحلية للطرف الأضعف المعادي للحوثيين بعين الاعتبار. لقد عدت وأنا أكثر قناعة بأن أي حل دائم ينبغي أن يشمل المدخلات المحلية.

أن معركة للسيطرة على مأرب يمكن أن تضيف كارثة جديدة إلى ما هو أصلاً أكثر حالات الطوارئ الإنسانية خطورة في العالم.

لقد تغير اليمن بعمق على مدى العقد الذي عملت فيه هناك. الآن، وبعد خمس سنوات من التدخل الذي قادته السعودية والذي أدى إلى تصاعد حرب أهلية ناشئة وتحوّلها إلى صراع إقليمي طويل، ثمة احتمال في أن يؤدي القتال في الشمال مرة أخرى إلى إعادة صياغة المشهد السياسي في البلاد بشكل جذري.

إذا انتصر الحوثيون في معركة السيطرة على مأرب، فسيكونون قد انتصروا في حرب السيطرة على الشمال، على الأقل في الوقت الراهن، ما يجعل الجهود الدولية لإنهاء الصراع أكثر صعوبة. الأسوأ من ذلك، هو أن معركة للسيطرة على مأرب يمكن أن تضيف كارثة جديدة إلى ما هو أصلاً أكثر حالات الطوارئ الإنسانية خطورة في العالم – حالة يمكن أن تزداد سوءاً في القريب العاجل إذا ضربت جائحة كوفيد–19 اليمن بشدة؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى نزوح أكثر من مليون شخص، والعديد منهم كانوا قد هربوا أصلاً من القتال في أنحاء أخرى من البلاد. لمعرفة ما أفكر به أنا وزملائي في مجموعة الأزمات حول القتال في الشمال، يرجى قراءة إحاطتنا، منع وقوع مواجهة مهلكة في شمال اليمن.

خريطة اليمن (مناطق السيطرة، كما هي في آذار مارس 2020)
خريطة اليمن الأمم المتحدة

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.