10 conflicts to watch
Palestinians search for casualties at the site of Israeli strikes on houses in Jabalia refugee camp in the northern Gaza Strip, October 31, 2023. REUTERS / Anas al-Shareef
Commentary / Global 20+ minutes

عشرة صراعات تجدر مراقبتها في عام 2024

عدد متزايد من القادة يسعى لتحقيق أهدافه عسكرياً، ويعتقد أنه يستطيع أن يفعل ذلك دون مساءلة

هل نستطيع أن نوقف الانهيار؟ يبدأ عام 2024 بحروب مشتعلة في غزة، والسودان وأوكرانيا، بينما صنع السلام في أزمة. وتُخفق الجهود الدبلوماسية، في جميع أنحاء العالم، في وضع حد للقتال. يسعى عدد أكبر من القادة لتحقيق أهدافه عسكرياً. ويعتقد عدد أكبر أنه يستطيع أن يفعل ذلك دون مساءلة.

منذ عام 2012 والحرب في حالة تصاعد، بعد تراجع في تسعينيات القرن العشرين ومطلع العشرية الأولى من هذه الألفية. اندلعت الصراعات أولاً في ليبيا، وسورية واليمن، التي أشعلت فتيلها الانتفاضات العربية في عام 2011. وامتد عدم الاستقرار في ليبيا جنوباً، فساعد في إحداث أزمة طويلة في منطقة الساحل. تبع ذلك معارك كبرى: الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في عام 2020 على إقليم ناغورنو كاراباخ؛ واندلع قتال مروِّع في إقليم تيغراي في شمال أثيوبيا بعد أسابيع، والصراع الذي أفضى إليه استيلاء الجيش في ميانمار على السلطة في عام 2021 وهجوم روسيا على أوكرانيا في عام 2022. أضف إلى ذلك الدمار الذي بدأ في عام 2023 في السودان وغزة. في جميع أنحاء العالم، يموت عدد أكبر من الناس في القتال، ويهجَّرون من بيوتهم أو هم في حاجة إلى مساعدات منقذة للحياة أكثر مما كان عليه الأمر على مدى عقود.

في بعض ميادين المعارك، لا وجود لصنع السلام أو إنه لا يحقق أي نتائج. الطغمة الحاكمة في ميانمار والضباط الذين استولوا على السلطة في الساحل عازمون على سحق خصومهم. في السودان، الذي يشهد ربما أسوأ الحروب الدائرة حالياً من حيث عدد القتلى والمهجَّرين، تعثرت الجهود الدبلوماسية التي قادتها الولايات المتحدة والسعودية فمضت مشوَّشة وفاترة على مدى أشهر. ويسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مراهناً على تراجع الدعم الغربي لكييف، إلى إجبار أوكرانيا على الاستسلام ونزع سلاحها – وهي شروط من المفهوم ألَّا تكون مقبولة للأوكرانيين. وفي جميع هذه الأماكن، تعالج الدبلوماسية التداعيات على قدر استطاعتها؛ في التفاوض على وصول المساعدات الإنسانية أو تبادل الأسرى والسجناء، أو التوصل إلى اتفاقيات مثل تلك التي أوصلت القمح الأوكراني إلى الأسواق العالمية عبر البحر الأحمر. إن هذه الجهود، رغم حيويتها، ليست بديلاً عن المحادثات السياسية.

في الحالات التي توقَّف فيها القتال، لم يتحقق الهدوء بفضل التوصل إلى تسويات بل بفعل الانتصار في ميدان المعركة. ففي أفغانستان، استولت طالبان على السلطة مع رحيل القوات الأميركية، دون مساومة مع خصومها الأفغان. وتوصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى اتفاق في أواخر عام 2022 مع زعيم المتمردين أنهى حرب تيغراي، لكن ذلك كان بمثابة ترسيخ انتصار آبي أكثر منه اتفاقاً حول مستقبل الإقليم. وفي هذا العام الماضي، استعادت أذربيجان السيطرة على ناغورنو كاراباخ؛ إذ أنهى الهجوم الذي شنته في أيلول/سبتمبر ما كان انتصارها قد بدأه في حرب عام 2020، فوضع حداً لمواجهة دامت ثلاثين عاماً على الإقليم وأجبر الأقلية الإثنية الأرمنية على الخروج منه.

انتهت الحروب أيضاً في ليبيا، وسورية واليمن لكن دون تسوية دائمة بين الأطراف وحتى، في حالتي ليبيا وسورية، دون مسار سياسي يستحق هذا الاسم. في الواقع، فإن الأطراف المتحاربة تنتظر غالباً فرصة للسيطرة على مزيد من الأرض أو السلطة.

ليس مفاجئاً أن ترغب الأطراف المتحاربة في دحر خصومها. لكن في تسعينيات القرن العشرين، تمكنت حزمة من الاتفاقيات من إنهاء صراعات في أماكن تمتد من كمبوديا والبوسنة إلى موزامبيق وليبيريا. لم تكن الاتفاقيات مثالية، وترتَّب عليها غالباً تقديم تنازلات بشعة. من الصعب رسم صورة رومانسية لسفك الدماء في البلقان على أنه حقبة ذهبية لصنع السلام. لكن سلسلة من الاتفاقيات بدت مؤشراً لمستقبل أفسحت فيه السياسة الأهدأ التي سادت بعد الحرب الباردة مزيداً من المجال للدبلوماسية. لكن على مدى العقد الماضي، كانت مثل تلك الاتفاقيات قليلة ومتباعدة. (تسوية عام 2016 للحرب الأهلية الكولومبية التي دامت عقوداً، واتفاق عام 2014 في الفلبين بين المتمردين في إقليم بانغسامورو والمناطق المحيطة به، شكلت بطريقة ما إرثاً لحقبة أخرى.)

قد يكون التحول المروِّع على مدى الشهور القليلة الماضية في إسرائيل–فلسطين المثال الصارخ على هذه النزعة. تلاشت جهود صنع السلام هناك قبل سنوات، وأشاح قادة العالم غالباً بوجوههم عن ذلك الصراع. توصلت عدة حكومات عربية إلى اتفاقات بوساطة أميركية مع إسرائيل تجاهلت غالباً محنة الفلسطينيين. قضمت إسرائيل مزيداً من الأراضي الفلسطينية، وتصرف المستوطنون بوحشية أكثر من أي وقت مضى، بالاتفاق في معظم الأحيان مع الجيش الإسرائيلي. أصبح الاحتلال أكثر قسوة، وتلاشت آمال الفلسطينيين بتحقيق الدولة، كما تلاشت مصداقية قادتهم الذين كانوا قد راهنوا على التعاون مع إسرائيل. لا شيء يمكن أن يبرر الهياج الإجرامي للمقاتلين الفلسطينيين في 7 تشرين الأول/أكتوبر. لكن الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني لم يبدأ في ذلك اليوم. الآن، قد يقضي الهجوم الذي قادته حماس والرد الإسرائيلي الانتقامي في قطاع غزة – وهو هجوم سوَّى بالأرض جزءاً كبيراً من القطاع ويمكن أن يؤدي إلى طرد عدد كبير من سكانه – فعلياً على أي أمل بتحقيق السلام لجيل كامل.

تكمن المشكلة في السياسة العالمية

إذاً، ما الخطأ الذي يحدث؟ لا تتعلق المشكلة بشكل رئيسي بممارسة الوساطة أو بالدبلوماسيين الضالعين فيها، بل إنها تكمن في السياسة العالمية. في لحظة تحوُّل، تتداعى القيود على استعمال القوة، حتى من أجل الاحتلال والتطهير العرقي.

يتحمل انهيار علاقات الغرب بروسيا والمنافسة بين الصين والولايات المتحدة جزءاً كبيراً من المسؤولية. حتى في الأزمات التي لا تكون القوى العظمى ضالعة فيها على نحو مباشر، تختلف هذه القوى على ما ينبغي أن تتضمنه الدبلوماسية أو كيف ترمي بثقلها وراءها. 

ويسهم انعدام اليقين بشأن الولايات المتحدة في المشكلة أيضاً. فقوة الولايات المتحدة ليست في حالة سقوط حر، وتراجعها قياساً بالدول الأخرى لا يعني بالضرورة نشوء حالة من الفوضى. في الواقع، فإن المبالغة في النفوذ الذي تفرضه الولايات المتحدة كقوة مهيمنة مضللة، وتتجاهل مغامراتها الفاشلة والمزعزعة للاستقرار في العراق، وليبيا وأماكن أخرى، وكذلك التقليل من شأن قوتها العسكرية اليوم. توفر السنتان الماضيتان قدراً كبيراً من الأدلة على نفوذ الولايات المتحدة – سواء من أجل الخير، في مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، أو من أجل الشر، بمنح محاولة إسرائيل تدمير قطاع غزة دعماً غير مشروط تقريباً. تتمثل المشكلة على الأرجح في العطالة السياسية وحالة التأرجح اللتين تعاني منهما الولايات المتحدة، الأمر الذي يُحدث تقلُّباً في دورها. الانتخابات الرئاسية لعام 2024 التي قد تحدث انقساماً في البلاد، والعودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي يثير ولعه بالرجال الأقوياء وازدراؤه للحلفاء التقليديين القلق في جزء كبير من أوروبا وآسيا، تنذر بسنة قادمة يسودها عدم الاستقرار.

لقد أصبحت عدة قوى متوسطة غير غربية أكثر ثقة وفرضاً لحضورها. إذ باتت البرازيل، والأنظمة الملكية في الخليج، والهند، وإندونيسيا وتركيا (وهذه بعضاً منها) تتمتع بدرجة أكبر من النفوذ وذلك ليس أمراً سيئاً بحد ذاته. إن رفض القوى المتوسطة، إلى حد معين، الاصطفاف على نحو منضبط خلف القوى الكبرى المتنافسة يقيِّد حركة تلك العواصم. لكن في الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا على نحو خاص، فإن القوى الإقليمية باتت أكثر نشاطاً في الحروب – ويمكن أن تجادل بأنها تفعل ما دأبت القوى العظمى على فعله منذ وقت طويل – وأسهمت في إطالة أمد القتال. لقد بات لدى الأطراف المتحاربة اليوم أماكن أكثر تتجه إليها للحصول على الدعم السياسي، والتمويل والأسلحة. ويتعيَّن على صُنَّاع السلام أن يأخذوا في الحسبان ليس الأطراف المتحاربة على الأرض فحسب، بل أيضاً الرعاة الخارجيين الذين ينظرون إلى المعارك المحلية من منظور حالات الخصومة والتنافس الأوسع.

تتجاوز المخاطر الخسائر البشرية. فالقادة الذين تشجعهم الانتصارات في الداخل قد لا يتوقفون في الداخل. يخشى الدبلوماسيون في منطقة القوقاز، على سبيل المثال، أن تسعى أذربيجان، بعد انتصارها في ناغورنو كاراباخ، إلى التشكيك بحدود أرمينيا في محاولة لانتزاع تنازلات من حكومتها بشأن الحصول على ممر ترانزيت عبر جنوب البلاد. ويشعر قادة القرن الأفريقي بالقلق من أن آبي، بعد انتصاره في تيغراي، قد يستعمل القوة للحصول على ممر لبلاده، التي ليس لها منفذ بحري، عبر إريتريا إلى البحر الأحمر. لا يزال احتمال حدوث أي من هذين التطورين منخضاً، لكنه مرتفع بما يكفي لإحداث شعور بعدم الارتياح. إنَّ عُرف عدم الاعتداء الذي رسَّخ النظام العالمي على مدى عقود بات يتداعى جزئياً بسبب محاولة روسيا ضم المزيد من الأراضي الأوكرانية. في عام 2024، بات خطر تحرُّك القادة بما يتجاوز سحق المعارضة في الداخل أو التدخل في الخارج من خلال وكلاء إلى القيام فعلياً بغزو الجيران أكثر جسامة مما كان في أي وقت آخر منذ سنوات.

إن خطر نشوء صراع أوسع يلقي بظلاله على قائمة هذا العام للصراعات أيضاً

كما أن خطر نشوء صراع أوسع يلقي بظلاله على قائمة هذا العام للصراعات أيضاً. للقوى الكبرى حوافز في ألَّا تقاتل بعضها بعضاً، لكن ثمة عدد أكبر من الصراعات المشتعلة والتوترات المتصاعدة على أكثر خطوط التماس العالمية خطورة، ومن بينها أوكرانيا، والبحر الأحمر وتايوان وبحر الصين الجنوبي. إن الحديث غير المنضبط عن الحرب في بكين، وموسكو وواشنطن يخاطر في تطبيع الكلفة التي يصعب تقديرها لصدامٍ تنخرط فيه الولايات المتحدة مع الصين أو روسيا.

يبدو من غير المرجح أن يدرك قادة العالم، بالنظر إلى انقساماتهم، مدى الخطورة التي باتت تتسم بها الأمور، والتأكيد جماعياً على إيمانهم بعدم تغيير الحدود بالقوة، واستثمار المزيد من الطاقة في التوصل إلى اتفاقات في الأماكن التي مزقتها الحرب، وفي إخضاع المتحاربين للعدالة ووصول مدنيين لم تلطَّخ أيديهم بالدماء إلى السلطة.

قد يكون أفضل ما يمكن أن نأمله لهذا العام هو تجاوزه ولو على نحو متعثر. يمكن للدبلوماسية بعيداً عن مناطق الحرب أن تساعد. كانت هناك نقطة مضيئة في عام 2023 تمثلت في التقارب الإيراني–السعودي، الذي أتى نتيجة وساطة عراقية، وعُمانية وصينية، تخفف من خصومة غذَّت الحروب العربية على مدى سنوات. لقد سعى قادة أتراك ويونانيون، وجميعهم خارجون من انتخابات ويشعرون بالقلق من غزو روسيا لأوكرانيا، إلى إصلاح العلاقات التي وتَّرها نزاع دائر منذ قرنين على بحر إيجه. هدَّأت قمة جرى تنسيق جيد لها بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ في أواخر عام 2023 إلى تخفيض حرارة إحدى أهم العلاقات الثنائية في العالم. حتى وسط الفوضى، يمكن للقادة أن يروا فائدة في تهدئة الأجواء وتعزيز قوة آليات الوقاية في أكثر مناطق العالم خطورة.

لكن الأمر أكثر صعوبة في ميادين المعركة، وهو مسألة اغتنام فرص لوقف القتال وتخفيف المعاناة عند ظهورها ومضاعفة الجهود لمنع انتشار الصراعات. من شبه المؤكد أن يعني ذلك القبول بأن التوصل إلى صفقات غير متوازنة تماماً بين المتحاربين أفضل من إطالة أمد الحرب والعمل مع أولئك الضالعين فيها لجعل الاتفاقيات أكثر قدرة على البقاء. ليس من المنطقي اليوم تهميش واستبعاد أولئك الذين يقفون وراء العنف، سواء على الأرض أو عن بُعد، لكنهم محوريون في تخفيف حدَّته. مثالياً، يمكن لقادة العالم أن يمنحوا الصراعات التي يُفترض أن تكون متجمدة اهتماماً تحتاجه قبل أن يفوت الأوان، كما توضح المأساة القائمة في قطاع غزة.

بعبارة أخرى، لنأمل بالأفضل، لكن صنع السلام اليوم يتمثل في وقف ما هو أسوأ. كما تظهر قائمة هذا العام، فإن ذلك بحد ذاته ليس إنجازاً صغيراً. 

قطاع غزة

نقل الهجوم الذي قادته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر وما تلاه من تدمير إسرائيل لقطاع غزة الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني القائم منذ عقود إلى فصل جديد مروِّع. بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر على بدء العمليات، من الواضح تماماً أن العمليات العسكرية الإسرائيلية لن تقضي على حماس، كما يجادل القادة الإسرائيليون، وأن فعل ذلك يمكن أن يؤدي إلى تدمير ما بقي من القطاع.

لقد أحدث رعب ونطاق هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، الذي شهد قيام مسلحين فلسطينيين بقتل أكثر من 1,100 شخص، معظمهم مدنيين، في إسرائيل وأخذ أكثر من 200 أسير، صدمة عند الإسرائيليين، وحطم شعورهم بالأمن. لقد تعمق انعدام الثقة الذي كان كثير من الإسرائيليين يشعرون به حيال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قبل الهجوم بسبب إخفاق حكومته في منعه. رغم ذلك، فإن الإسرائيليين متَّفقون في معظمهم مع نتنياهو بأنهم لا يستطيعون العيش بجوار حماس. ويعدُّون التهديد الذي تشكله أكثر خطراً مما يستطيعون احتماله.

بدأت الحملة التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة، وهو الشريط الساحلي المكتظ بالسكان الذي تحكمه حماس وتحاصره إسرائيل ومصر منذ ستة عشر عاماً، بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر بوقت قصير. حاصرت إسرائيل القطاع لمدة أسابيع قبل السماح بمرور كميات محدودة من المساعدات. مهَّد القصف المكثف والدعوات التي وُجهت لسكان شمال القطاع، بما في ذلك مدينة غزة، لإخلائه والتوجه جنوباً الطريق أمام العمليات البرية التي تمثلت في الإحاطة بقطاع غزة ومن ثم الدخول إليه. في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، شهدت هدنة قصيرة، توسطت في التوصل إليها قطر والولايات المتحدة وبدعم من مصر، قيام حماس بإطلاق سراح 105 رهائن (81 إسرائيلياً و24 آخرين) وقيام إسرائيل بإطلاق سراح 240 فلسطينياً من سجونها. في 1 كانون الأول/ديسمبر، استؤنف الهجوم بشن عمليات برية في جنوب قطاع غزة أيضاً. ويستمر القصف والقتال المكثفين في جميع أنحاء القطاع.

لقد كانت العمليات الإسرائيلية مدمرة، إذ سوَّت بالأرض جزءاً كبيراً من القطاع؛ وقتلت أكثر من 20,000 فلسطيني؛ وأبادت أجيالاً من العائلات؛ وتركت أعداداً لا حصر لها من الأطفال قتلى، أو مشوهين أو يتامى. لقد ألقت إسرائيل كميات هائلة من القنابل – بما في ذلك قنابل تزن ألفي رطل (نحو ألف كيلو غرام) – على مناطق مكتظة بالسكان. للإيضاح من طريق المقارنة، فإن التحالف المشكَّل لمحاربة الدولة الإسلامية في العراق وسورية تردد قبل إسقاط قنابل بربع ذلك الحجم على مناطق أقل كثافة سكانية. وتشير التقارير إلى أن الدمار على نطاق وإيقاع لا مثيل له في التاريخ الحديث. لقد غادر أكثر من 85 بالمئة من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة منازلهم، طبقاً للأمم المتحدة، التي تحذِّر أيضاً من انهيار النظام العام، ومن المجاعة والأمراض المعدية، التي تقول وكالات المساعدات إنها يمكن أن تحصد قريباً أعداداً أكبر مما تقتلها العمليات العسكرية. كثير من الفلسطينيين، وبعضهم نزحوا عدة مرات، هربوا إلى مناطق أبعد في الجنوب لإقامة مخيمات مؤقتة على طول الحدود المصرية. ويقول بعض المسؤولين الإسرائيليين صراحة إنهم يأملون أن تدفع الظروف في قطاع غزة الفلسطينيين إلى المغادرة؛ بينما تنكر إسرائيل أن هذه سياسة رسمية.

فلسطينيون يهربون من شمال غزة وينتقلون إلى الجنوب مع توغل الدبابات الإسرائيلية إلى عمق القطاع، وسط استمرار الصراع بين إسرائيل وحماس وسط قطاع غزة، 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 رويترز / إبراهيم أبو مصطفى

لقد أغلقت إسرائيل الضفة الغربية المحتلة. وصعَّدت من درجة عدوانية عملياتها الأمنية هناك، سواء انتقاماً لهجوم تشرين الأول/أكتوبر أو لإحباط هجمات يقوم بها فلسطينيون كما يجادل المسؤولون الإسرائيليون. لقد صعَّد المستوطنون الإسرائيليون (المدعومون والمسلحون من حكومة نتنياهو، التي تضم عدة وزراء هم أنفسهم مستوطنين) عنفهم ضد الفلسطينيين، وهجَّروا سكان عدة قرى، فيما تصفها مجموعات حقوق إنسان إسرائيلية ودولية بأنها أفعال تهجير قسري.

لقد دعمت الحكومة الأميركية إسرائيل حتى الآن دون شروط فعلية. ويجادل المسؤولون الأميركيون بأن واشنطن تستعمل إستراتيجية قائمة على الدعم علناً من أجل تحقيق نفوذ أكبر على القادة الإسرائيليين سراً. فقد ساعدت الدبلوماسية الأميركية في التوصل إلى هدنة تشرين الثاني/نوفمبر وربما خففت من أثر بعض التكتيكات الإسرائيلية، رغم أن عدد الضحايا في قطاع غزة يشير إلى أن هذا التأثير لم يكن كبيراً. في الأسابيع الأخيرة، بدأ مسؤولون أميركيون يشككون بكلفة الحملة ومدتها على نحو أكثر علنية. لكن بايدن رفض الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، وفي مطلع كانون الأول/ديسمبر استخدمت الولايات المتحدة الفيتو على قرار لمجلس الأمن الدولي يطالب به (بعد أسبوعين، وافق المجلس على نص غامض يذكر وقفاً للأعمال القتالية دون مطالبة الطرفين بالسعي إلى ذلك). كما يرفض بايدن وضع شروط على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل. ويرى معظم العالم أن واشنطن متواطئة في تدمير القطاع.

لم يقدم نتنياهو كثيراً من التفاصيل بشأن هدفه النهائي في قطاع غزة، باستثناء أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية على القطاع. ويرفض الفكرة التي تروج لها واشنطن بأنه يمكن للسلطة الفلسطينية، التي تحكم جزءاً من الضفة الغربية وتهيمن عليها فتح، الخصم الفلسطيني الرئيسي لحماس، أن تلعب دوراً في حكم قطاع غزة بعد الحرب. ويقول إن إسرائيل ستحارب إلى أن تقضي على حماس. (قرار للحكومة الإسرائيلية المصغَّرة في بداية الحرب حدد في البداية أهدافاً أضيق للحرب تتمثل في تدمير القدرات العسكرية لحماس وقدرتها على الحكم.) ويقول نتنياهو إن المكاسب العسكرية تساعد في تأمين إطلاق سراح الرهائن. لكن من الواضح أن حكومته تعطي الأولوية للمكاسب على حساب الرهائن. في 15 كانون الأول/ديسمبر، أطلق الجنود الإسرائيليون النار على ثلاثة رهائن مدنيين تحتجزهم حماس، كانوا يرتدون نصف ملابسهم ويرفعون علماً أبيض، ما دفع عائلاتهم وعائلات رهائن آخرين لتكثيف احتجاجاتها في تل أبيب.

ليس هناك الكثير حتى الآن مما يشير إلى أن إسرائيل تستطيع القضاء على حماس

في الواقع، ليس هناك الكثير حتى الآن مما يشير إلى أن إسرائيل تستطيع القضاء على حماس. وحتى تدمير كتائبها سيكون أمراً صعباً؛ ومهما حدث، فإن الحركة السياسية والاجتماعية الأوسع ستنجو وستستمر المقاومة المسلحة بشكل ما مادام الاحتلال مستمراً. تدَّعي القوات الإسرائيلية أنها فككت البنية التحتية للمقاتلين، بما في ذلك العديد من أنفاق قطاع غزة، وقتلت ربما 8,000 من مقاتلي حماس واعتقلت آلافاً غيرهم. إذا كانت هذه المعلومات دقيقة، فإن ذلك يمثل أقل من نصف الجناح العسكري للحركة. في مدينة غزة، التي يفترض أن تكون قد أصبحت الآن تحت السيطرة الإسرائيلية، تستمر الكمائن التي ينصبها المقاتلون، الأمر الذي يشير إلى أن حماس ما تزال فعَّالة. يبدو أن واشنطن تأمل بأن مناشدة إسرائيل بتحسين حماية المدنيين ستفضي إلى حملة أكثر دقة. لكن غزة أصغر من أن تتيح تنفيذ ذلك، وحماس مختلطة تماماً مع المدنيين. ليس هناك حجة ذات مصداقية بأن الفظاعات التي تعرَّض لها الإسرائيليون في 7 تشرين الأول/أكتوبر تبرر التدمير الذي لحق بالقطاع ومجتمعه، ناهيك عن تحقيق هدف يبدو من الواضح على نحو متزايد عدم قابليته للتحقيق.

بدلاً من ذلك، ينبغي على واشنطن أن تضغط بإلحاح أكبر من أجل التوصل إلى هدنة أخرى تفضي إلى إطلاق سراح جميع الرهائن الذين تحتجزهم حماس مقابل أسرى فلسطينيين. يمكن لترتيبات مؤقتة بشأن غزة، سيكون هناك صعوبة أكبر في التفاوض عليها، أن تشهد انسحاب القوات الإسرائيلية، وتخفيف الحصار وضمان قوى خارجية لوقف إطلاق نار طويل. وتتخلى حماس عن أي دور في الحكومة لصالح شكل من السلطة الفلسطينية المؤقتة. يطرح بعض المسؤولين العرب فكرة خروج قادة حماس العسكريين أو حتى مقاتليها من غزة. مثالياً، يمكن لأحكام انتقالية أن تمهد الطريق لتجدد جهود إعادة إحياء مسار سياسي أوسع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، رغم وجود صعوبات هائلة. ثمة عدد أكبر من الإسرائيليين باتوا يشاطرون الآن رفض نتنياهو القديم لقيام دولة فلسطينية أو على الأقل يفكرون أن اليوم ليس الوقت المناسب لإعادة وضع هذه المسألة على الطاولة. يزدري الفلسطينيون قادة السلطة الفلسطينية بسبب عجزهم وفسادهم. وستتطلب المفاوضات قيام قادة العالم باستثمار جهود أكبر بكثير مما فعلوا في السنوات الماضية.

لكن بالنظر إلى الوضع القائم حالياً، فإن الاحتمال الأكثر ترجيحاً يتمثل في قيام عمليات كبرى تستمر أسابيع (وربما أشهر) تتبعها حملات أكثر أو أقل كثافة يبقى قطاع غزة خلالها في وضع معلَّق. ويبدو أن فرض احتلال عسكري طويل أمر مرجح، حتى لو أنكر نتنياهو أنه يعتزم ذلك. ستسيطر القوات الإسرائيلية على مناطق من القطاع، وستستمر الغارات، بينما يحتشد الفلسطينيون في مناطق أو مخيمات أصغر فأصغر تسمَّى آمنة، وتبقيهم الوكالات الإنسانية أحياءً إلى الحد الممكن.

ويمكن أن تسوء الأمور. رغم تصميم مصر على إبقاء الفلسطينيين على جانب قطاع غزة من الحدود، ليس من الصعب تخيُّل عبور اللاجئين إلى الجانب الآخر – ولا سيما إذا استمرت الحملة واستمرت العمليات البرية والقصف المكثف لمدينة رفح الحدودية. سيرى الفلسطينيون وجزء كبير من العالم العربي في ذلك تكراراً لنكبة عام 1948، عندما هرب مئات آلاف الفلسطينيين أو طُردوا من بيوتهم فيما بات الآن إسرائيل – وانتهى الأمر بكثير منهم في قطاع غزة أو في البلدان المجاورة.

في الخلاصة، يبدو أن ثمة احتمالاً أكبر في أن يؤدي استمرار الحرب ليس إلى بداية جهود لإعادة إحياء عملية السلام، كما يدَّعي بعض القادة الغربيين، بل إلى إنهاء أي مسار سياسي يستحق ذلك الاسم. لم يسبق في التاريخ القاتم لهذا الصراع أن كان السلام أبعد مما هو الآن. 

حرب شرق أوسطية أوسع

لا ترغب إيران ولا حلفاؤها من غير الدول ولا الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة إقليمية، لكن ثمة طرق كثيرة يمكن فيها لحرب إسرائيل–حماس أن تشعل مثل تلك المواجهة.

ستكون الحرب، من بعض الأوجه، لصالح إيران. فقد جمدت، حتى الآن، اتفاقاً بوساطة أميركية لم يعجب إيران، كان من شأنه أن يفضي إلى تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، عدو طهران المعلن. كما كشفت مدى امتداد ما يسمى محور المقاومة، وهو تشكيلة من المجموعات المسلحة التي تدعمها إيران – حزب الله في لبنان، وعدة ميليشيات في العراق وسورية، والحوثيين في اليمن، إضافة إلى المجموعتين الفلسطينيتين المسلحتين حماس والجهاد الإسلامي – تمارس طهران عليها درجات متفاوتة من السيطرة. لقد رفعت هذه المجموعات درجة حرارة الأحداث (عندما دخلت القوات البرية الإسرائيلية قطاع غزة) وخفضتها (خلال الهدنة التي دامت أسبوعاً في قطاع غزة عندما جرى تبادل الأسرى بالرهائن) بطريقة تظهر أنها يمكن أن تعمل بالتنسيق مع بعضها بعضاً. ترحب طهران بارتفاع حدة الغضب الموجه إلى إسرائيل والولايات المتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

لكن الحرب تأتي في وقت سيء بالنسبة لطهران. فعلاقاتها مع واشنطن هدأت بعد موجة من الغضب الغربي على قمع النظام للاحتجاجات في أواخر عام 2022 وتقديم الأسلحة لروسيا. في آب/أغسطس، تبادلت الولايات المتحدة وإيران المحتجزين، بموازاة تفاهم ضمني على أن تقنع طهران المسلحين في العراق وسورية بعدم استهداف القوات الأميركية، وإبطاء التطورات النووية والتعاون على نحو أفضل مع المفتشين، مقابل ما ذُكر عن تخفيف الحكومة الأميركية لفرض العقوبات من أجل مساعدة الاقتصاد الإيراني المتداعي. لقد تبدد هذا الترتيب الآن.

كما تضع الحرب في قطاع غزة إيران في مأزق. فإيران لا ترغب في أن تعرِّض غزة للخطر حزب الله، وهو حليف تراه محورياً لما تسميه "الدفاع المتقدم" – لردع هجوم على الجمهورية الإسلامية نفسها من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة. لكن، مع ادعائها لسنوات بأنها تدعم القضية الفلسطينية، فإن إيران وحلفاءها يشعرون بالضغط لفعل شيء ما. يذكر أن طهران أزعجها أن حماس، التي تمولها وتسلحها، شنت هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر في هذا التوقيت. بالمقابل يبدو أن حماس محبطة من أن إيران لا تقدم قدراً أكبر من المساعدة.

آخر شيء يريده بايدن هو حرب شرق أوسطية أكبر بينما يحاول دعم أوكرانيا، واحتواء الصين وخوض حملة إعادة انتخابه

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن آخر شيء يريده بايدن هو حرب شرق أوسطية أكبر بينما يحاول دعم أوكرانيا، واحتواء الصين وخوض حملة إعادة انتخابه. كان تفاهم واشنطن الضمني مع طهران في الصيف الماضي لتخفيف حدة الاحتكاكات يهدف إلى تأجيل أزمة نووية أو إقليمية أخرى، لكن دون تخفيف العقوبات على إيران والظهور بمظهر إبداء الليونة عشية الانتخابات الأميركية في عام 2024. لقد حاولت واشنطن منع الحرب من الاتساع، فأرسلت مجموعتين مرافقتين لحاملتي طائرات إلى البحر المتوسط واستثمرت رأس مال دبلوماسي هائل، رغم أن بايدن رفض حتى الآن الخطوة الوحيدة – أي الدفع باتجاه وقف لإطلاق النار – التي من شأنها أن تقلِّص المخاطر بأسرع وقت ممكن.

تتمثل بؤرة الاشتعال الأكثر خطورة في الحدود الإسرائيلية–اللبنانية. منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تبادل حزب الله وإسرائيل نيران الصواريخ على نحو متزايد، حيث يسعى حزب الله إلى إبقاء الجيش الإسرائيلي تحت عتبة الحرب الشاملة التي خاضها الطرفان لوقت قصير في عام 2006.

يمكن للتوتر أن يكتسب حياة خاصة به. إذ يشير قادة إسرائيليون متشددون إلى أنه بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا تستطيع إسرائيل المخاطرة بترك قوة مسلحة معادية – ولا سيما قوة ذات قدرات أكبر من قدرات حماس، تمتلك مخزوناً يقدَّر بـ 150,000 صاروخ – بهذا القرب من حدودها الشمالية. كما أن ثمة ضغوطاً شعبية لمعالجة مشكلة حزب الله؛ إذ أُجبر أكثر من 100,000 من سكان شمال إسرائيل على إخلاء بيوتهم إلى أجل غير محدد.

وفي مناطق أخرى، تبادلت مجموعات مدعومة من إيران النار مع القوات الأميركية. ففي سورية والعراق، ضربت الميليشيات على نحو متكرر القواعد الأميركية والمنشآت الدبلوماسية، الأمر الذي أدى إلى شن ضربات أميركية مضادة أدت إلى مقتل أفراد في هذه الميليشيات.

سفينة حربية تشارك في تدريب عسكري بحري بين إيران، وروسيا، والصين في خليج عمان، إيران، في هذه الصورة التي التقطتها رويترز في 17 آذار/مارس 2023 الجيش الإيراني / وانا / نقلتها رويترز

ثم هناك الحوثيون، الذين يمكن أن تستغني عنهم أكثر من حزب الله وأن تستعملهم لمختلف الأغراض. لقد أطلق المسلحون اليمنيون صواريخ وطائرات مسيرة على إسرائيل وضربوا سفناً تجارية في البحر الأحمر، وذكروا أن دافعهم هو الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة. في منتصف كانون الأول/ديسمبر، دفعت ضربات على سفينتين قرب باب المندب، وهو مضيق يربط البحر الأحمر بخليج عدن، عملاق الشحن ميرسك وشركات أخرى إلى وقف عبور سفنها. ويبدو أن قيام الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى بتشكيل قوة بحرية لحماية الشحن البحري، في أواخر كانون الأول/ديسمبر قد نجح جزئياً في إعادة فتح الممر. عند نقطة معينة، يمكن أن تفقد إسرائيل، أو الولايات المتحدة أو حلفاءها صبرهم، وأن يضربوا ليس الحوثيين فحسب بل أهدافاً إيرانية أيضاً – يمكن لقارب تجسس إيراني يُفترض أن يمرر معلومات استخبارية أن يكون هدفاً واضحاً – الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التصعيد.

في الوقت نفسه، فإن إيران تقترب من القدرة على بناء أسلحة نووية. لقد بات بإمكانها تخصيب ما يكفي من اليورانيوم لإنتاج ترسانة من أربعة رؤوس حربية خلال شهر. (رغم أنها ستحتاج إلى بضعة أشهر أخرى لصنع سلاح فعلي.) لقد قلَّصت إشراف الوكالة الرقابية التابعة للأمم المتحدة على برنامجها. وسيكون من الصعب العودة إلى اتفاق شبيه بالاتفاق النووي لعام 2015، بالنظر إلى التقدم النووي الذي أحرزته إيران منذ ذلك الحين، لكن لا أحد يفكر جدياً بما يمكن أن يحل محله.

في حين أن أياً من الطرفين لا يرغب بالحرب، لكن يمكن لكثير من الأشياء أن تذهب في الاتجاه الخطأ، ولا سيما مع استمرار حملة إسرائيل على قطاع غزة. يمكن لهجوم – سواء على الحدود اللبنانية، أو في العراق أو سورية، أو في البحر الأحمر أو الخليج الفارسي – يقتل عدداً كبيراً من المدنيين أو الطواقم الأميركية أن يؤدي إلى تصاعد في الضربات المتبادلة. 

إذا تحركت إسرائيل ضد حزب الله، فإن حرباً شبيهة بحرب عام 2006 من شبه المؤكد أن تشعل مواجهة أوسع، بالنظر إلى تعزيز أصول إيران في المنطقة، ويمكن أن تجرَّ الولايات المتحدة إلى صراعات في جميع أنحاء المنطقة.

بالنظر إلى أن المسؤولين الأميركيين يرون في الدبلوماسية مع طهران غالباً أمراً ساماً، فإن اقتراب إيران من العتبة النووية سيفرض على واشنطن خيارات لا تحبها؛ فإما أن تقبل بخصم عنيد يتمتع بقدرات نووية سعت الإدارات المتعاقبة إلى منعها أو محاولة إعادة عقارب نشاطها إلى الوراء بالقوة، الأمر الذي من شبه المؤكد أن يشعل المواجهة الإقليمية التي ترغب معظم الأطراف في واشنطن بتجنبها.

السودان

في نيسان/أبريل، تطور الاحتكاك بين الفصيلين العسكريين السودانيين – الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية – إلى حرب شاملة. ومنذ ذلك الحين، أدت المعارك بينهما إلى مقتل الآلاف، وهجَّرت الملايين وأوصلت السودان إلى حافة الانهيار. ومع تخييم شبح الإبادة الجماعية مرة أخرى على إقليم دارفور الغربي، يبدو من المحتمل أن تسيطر قوات الدعم السريع، المسؤولة عن جزء كبير من عمليات القتل، على البلاد.

تعود الحرب في جذورها إلى صراعات داخل الجيش بعد الإطاحة برجل السودان القوي عمر البشير خلال انتفاضة شعبية في عام 2019. كان البشير قد عزز قوات الدعم السريع بصفتها حرساً رئاسياً غير رسمي، في محاولة لعزل نفسه عن التهديدات بالانقلاب عليه. اكتسب قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف أيضاً بحميدتي، سمعة سيئة بصفته قائداً لميليشيات الجنجويد التي قمعت التمردات بشراسة نيابة عن البشير في دارفور في منتصف العشرية الأولى من الألفية.

مع خروج آلاف السودانيين إلى الشوارع في عام 2019، وحَّد حميدتي والضابط في القوات المسلحة السودانية الجنرال عبد الفتاح البرهان قواتهما للإطاحة بالبشير ومن ثم اتفقا على تقاسم السلطة مع حكومة مدنية. في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أخرجا المدنيين من الحكم. وتحت الضغط لاستعادة الحكم المدني، أصبح التحالف بين قوات الدعم السريع والجيش أكثر توتراً، الأمر الذي أفضى إلى مفاوضات مشحونة حول كيف ومتى يدمج حميدتي مقاتليه تحت قيادة البرهان.

مع وصول المحادثات إلى طريق مسدود في منتصف نيسان/أبريل، اندلع القتال في العاصمة الخرطوم ومن ثم انتشر. من غير الواضح من أطلق الرصاصة الأولى.

دمرت المعارك الأولى جزءاً كبيراً من المدينة. واكتسح مقاتلو قوات الدعم السريع – ومعظمهم من غرب السودان – الأحياء ونهبوها. الجيش، وهو الأضعف على الأرض، قصف من الجو. في دارفور، اتسعت الحرب لتشمل عمليات قتل إثنية، حيث قتلت قوات الدعم السريع مدنيين في غرب دارفور على نحو خاص. وبدا أن خطوط الجبهة استقرت خلال الصيف. ثم، في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، سيطرت قوات الدعم السريع على مدن دارفور الرئيسية، وظهرت قصص جديدة تصف الوحشية ضد المساليط، وهي جماعة غير عربية تحرشت بها الميليشيات على مدى سنوات. مع سيطرة قوات حميدتي غير المنضبطة على معظم الغرب، إضافة إلى جزء كبير من الخرطوم ومحيطها، نقل الجيش مركز قيادته إلى بورتسودان على البحر الأحمر. في كانون الأول/ديسمبر، شنت قوات الدعم السريع هجوماً صاعقاً شرق العاصمة على ولاية الجزيرة التي تعد سلَّة خبز السودان. وسقطت مدينة واد مدني – عاصمة الجزيرة، التي هرب إليها نحو نصف مليون سوداني، معظمهم من الخرطوم – دون قتال تقريباً، ما وجه ضربة لمعنويات الجيش السوداني.

يستجيب كثير من السودانيين من المناطق المحيطية في البلاد لخطاب قوات الدعم السريع الذي يدين النخب الحاكمة

سببت الحرب قدراً أعمق من الاستياء. رغم السجل المروِّع لقوات الدعم السريع، فإن كثيراً من السودانيين من المناطق المحيطية في البلاد يستجيبون لخطاب هذه القوات الذي يدين النخب الحاكمة، رغم أن البعض يمقت أيضاً السلوك الافتراسي للقوات شبه العسكرية. السودانيون الذين يقطنون المناطق المحاذية للأنهار، من جهتهم، والذين حكموا البلاد تاريخياً، ينظرون إلى قوات الدعم السريع بازدراء.

وهناك أيضاً تدخل خارجي؛ إذ تشير التقارير إلى أن قوات الدعم السريع تتلقى أسلحة من الإمارات العربية المتحدة – حاربت قوات حميدتي مع الإماراتيين في اليمن – في حين يتلقى الجيش الدعم بشكل رئيسي من مصر. مع تقدم قوات الدعم السريع شرقاً، عبَّر دبلوماسيون أفارقة، وعرب وغربيين عن خشيتهم من أن رغبة الإمارات العربية المتحدة بالوصول إلى البحر الأحمر ربما تلعب دوراً. ويبقى من غير الواضح ما إذا كان الجيش قادراً على إعادة التجمع بما يكفي لوقف زخم قوات الدعم السريع.

في حين أن الجنرالات – والإسلاميين المتحالفين معهم من حقبة البشير الذين اعتمد الجيش على دعمهم والذين يشعرون بأنهم سيكونون أكبر الخاسرين من التوصل إلى اتفاق – قاوموا منذ مدة طويلة محادثات السلام، فإن ثمة علامات على أنهم قد يكونون متلهفين لإيجاد مخرج. لكن كلما ضعف الجيش، كلما قلَّ ما سيعرضه حميدتي.

فيما يتعلق بجهود صنع السلام، اجتمع ممثلو الطرفين على نحو متقطع في جدة، في السعودية، لكن أياً منهم لم يفاوض بنية طيبة. استبعدت الرياض وواشنطن، اللتان عقدتا المحادثات، آخرين، بما في ذلك أبو ظبي والقاهرة، يقومون بدور محوري في كبح جماح الطرفين المتحاربين (رغم أنهما دعيا مؤخراً مبعوثاً من الكتلة الإقليمية في القرن الأفريقي، الهيئة الحكومية للتنمية [إيغاد])

عبد الله، 54 عاماً، رجل سوداني من الجنينة، هرب من الصراع في إقليم دارفور السوداني مع أسرته، يبني مأوى مؤقتاً في أدري، تشاد، 19 تموز/يوليو 2023 رويترز / زهرة بنسيمرا

في كانون الأول/ديسمبر، حولت واشنطن دعمها إلى دفع رؤساء دول أفريقيين إلى جمع البرهان وحميدتي للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. عبَّر القائدان عن استعدادهما لعقد اجتماع، لكن من غير الواضح ما إذا كانا مستعدين للقاء فعلاً، وانهارت المحادثات التي كان من المخطط إجراؤها في 28 كانون الأول/ديسمبر. تحدٍ آخر يتمثل في أنه منذ شهور، كان الدبلوماسيون الأميركيون حذرين من التوصل إلى صفقة بين حميدتي والبرهان خشية إغضاب السودانيين الذين يرغبون برحيل القادة الذين دفعوا البلاد إلى الخراب.

لكن من المرجح أن يشكل مثل ذلك الاتفاق خطوة أولى ضرورية. وفي حين أن أي وقف لإطلاق النار ينبغي أن يتَّسع ليشمل الآخرين ويتضمن العودة إلى الحكم المدني، فإن قوات الدعم السريع والجيش لن يتوقفا عن القتال دون أن يكون لهما رأي فيما يحدث تالياً.

ثمة حاجة ملحَّة إلى الدبلوماسية. إذ من شأن انهيار السودان أن يُحدث تداعيات واسعة على مدى عقود في جميع أنحاء منطقة الساحل، والقرن الأفريقي والبحر الأحمر. ونافذة تجنُّب ذلك المصير على وشك الإغلاق.  

Contributors

President & CEO
EroComfort
Executive Vice President
atwoodr

More for you

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.