Op-Ed / Middle East & North Africa 4 minutes

هل انتصرت مصر؟

مازال الوقت مبكرا ولم يتم بعد إدراك حجم ما أنجزه الشعب المصري بشكل كاف. بعض هذه الإنجازات واضح بقدر ما هو مذهل. ففي أقل من ثلاثة أسابيع، دحض المحتجون تلك الفكرة المتوارثة عن سبات العرب، وقاموا بإعادة تشكيل السياسة الوطنية، وفتحوا المجال الســــياسي أمام فاعلين جدد، وأشعلوا فتيل الاحتجاجات في أنحاء المنطقة، ودعوا إلى التشكيك في الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام في الشرق الأوسط. فقد قام الكثيرون في العالم بمجرد المشاهدة على استحياء، وتغيير مواقفهم وفقا لحظ حلفائهم المتقلب. ويتمثل التحدي الآن في ترجمة نشاط الشارع إلى سياسة مؤسساتية وديمقراطية تعددية بحيث لا يتوقف الاحتجاج الشعبي الذي بلغ ذروته في انقلاب عسكري عند ذلك الحد

لم تصل الدراما إلى فصلها الأخير بعد. يدير المجلس العسكري البلاد والحكومة تشبه سابقتها على نحو مذهل. تستمر الإضرابات، في ما يظهر المحتجون قدرة متجددة على حشد مئات الآلاف. كانت هذه الإضرابات ثورة شعبية ولكنها انتهت بانقلاب عسكري، وهذه الازدواجية التي آلت إلى نزع مبارك مازالت موجودة اليوم. فالنزاع بين مؤسسة هرمية مهوسة بالاستقرار وحريصة على حماية مصالحها، وحركة شعبية عفوية وأقل تنظيما، سيؤثر على عدد من الجبهات - من بينها: من الذي سيحكم خلال الفترة الانتقالية، وما هي صلاحياته؟ ومن سيسيطر على عملية كتابة الدستور، وما مدى شموليته؟ ومن الذي يقرر قواعد الانتخابات المقبلة، ومتى ستعقد؟ وإلى أي مدى سيتغير ويٌفتح المجال السياسي قبل ذلك؟

لعب الجيش دورا رئيسيا وحاسما وإن كان متناقضا. فلم يحبذ أن تملي الاحتجاجات تطورات سياسية، وكان قلقا من حالة عدم الاستقرار. كما كان مصمما على حماية مصداقيته الشعبية بقدر حرصه على مصالح الشركات التجارية والمصالح المؤسساتية. وقد وصل إلى استنتاج فحواه أن الطريقة الوحيدة للتوفيق بين هذه الاعتبارات المتعارضة هي أن يتدخل. ومازال هذا الغموض قائما اليوم فالجنود الذين يحكمون بموجب مرسوم وبدون مراقبة برلمانية أو مشاركة حقيقية للمعارضة هم أنفسهم الذين عملوا مباشرة مع الرئيس السابق. يبدو أنه لا مصلحة لهم بأن يمسكوا بزمام الأمور ويفضلوا مغادرة خشبة المسرح بأسرع ما يمكن ليكونوا في الكواليس حيث يمكنهم التمتع بامتيازات من دون تكبد الاستياء الشعبي، عندما تحل خيبة الأمل الشعبية المحتومة، ولكن بالوقت ذاته يريدون السيطرة على وتيرة التغيير ومداه.
افتقرت المعارضة إلى قائد محدد الهوية أو ممثلين لها، وتكتلت حول الطلب الواضح بالتخلص من مبارك. لقد مكن هذا الأمر خلال الاحتجاجات من مد جسر لسد الانقسامات الاجتماعية والدينية والايديولوجية، والانقسامات ما بين الأجيال، وحشد مجموعة كبيرة من مكونات الطيف الاقتصادي المختلفة والشباب الناشطين والمعارضة التقليدية، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين. كان مصدر إلهامها الرئيسي ضميريا وأخلاقياً وليس مبرمجا. احتجاج ضد نظام يرادف الجشع والعار، لم تتمكن أدوات النظام التقليدية من تبديد زخم المحتجين؛ لم تتمكن من تجاوز بعض أحزاب المعارضة واستغلال الانقسامات

بما أنها لم تكن المحرك لهذه الحركة، فقد فشلت كل التنازلات عدا تنحي مبارك على تلبية الحد الأدنى لمطالب المتظاهرين، ولم ينتج عن محاولات القمع إلا ترسيخ صحة تصورات المحتجين عن النظام وتعزيز التعاطف الدولي معهم.
وفيما تنتقل العملية من الشارع إلى أروقة السلطة، قد تثقل نقاط القوة هذه كاهل المعارضة. فقد تعاود المنافسة بين صفوفها بالظهور، وكذلك تضارب المصالح بين فئات اجتماعية مختلفة، فغياب أي سلطة تمثيلية أو أجندة ايجابية متفق عليها سيقوض فعاليتها؛ أما الشكل الرئيسي للضغط - المتمثل بالاحتجاجات في الشارع - فهو من الأصول المتناقصة. والسؤال الأهم هو في ما إذا كانت ستجد الحركة طريقة لمأسسة حضورها وقدرتها على ممارسة الضغوط

لقد تأرجحت الآراء كثيرا خلال الأحداث الأخيرة. فقد عبر الكثيرون عن بغضهم للنظام، ولكن أيضاً عن قلقهم حيال الفوضى وعدم الاستقرار الناجمين عن الاحتجاجات. وورد أن العديد اعتبروا تنازلات مبارك كافية وتفهموا رغبته بمغادرة كريمة، إلا أنهم ذعروا من عنف بلطجية النظام. ولكن التطـــلع المشترك الأكبر هو العودة إلى الحياة الطبيعية وللنشاط الاقتصادي المعتاد نظرا إلى الثمن الباهظ لحالة عدم الاستقرار

وقد ترجم ذلك في بعض الأحيان إلى التمني بأن تتوقف الاحتجاجات، أو بأن يتوقف النظام عن اللجوء إلى تدابير عنيفة استفزازية في أوقات أخرى. ستؤثر هذه الازدواجية على المرحلة المقبلة، على الرغم من أن العديد من المصريين يخشون التطبيع، بمعنى الحفاظ على الركائز الأساسية لنظام مبارك، إلا أنه من المرجح أن يتلهف عدد أكبر لنوع آخر من التطبيع، تطبيع يكفل حفظ النظام والأمن وفرص العمل. وسيكمن التحدي في الجمع بين مؤسسات مستقرة وقادرة على العمل مع عملية تغيير سياسية واجتماعية اقتصادية حقيقية

ينقسم المعلقون الغربيون إلى معسكرين: أولئك الذين رأوا بصمات الإخوان المسلمين في جميع أنحاء الانتفاضة، وأولئك الذين اعتبروها انتصارا لجيل شباب تلقى تعليما غربيا متجاهلا للرؤية الإسلامية المعادية للولايات المتحدة. كلا التفسيرين مخطئ. فقد لعبت الاتصالات الحديثة دورا كبيرا، ولاسيما في المراحل الأولى، كما لعب الشبان من الطبقة الوسطى المفعمون بالطاقة دورا أيضا 

شاهدت جماعة الإخوان المسلمين في البداية ما يحدث بقلق، خوفا من حملة النظام التي ستتبع التورط في انقلاب فاشل. لكنها سرعان ما غيرت موقفها استجابة لضغوط من أعضائها الشباب الأكثر انفتاحا على العالم في ميدان التحرير ولزخم الاحتجاجات المدهش. بمجرد أن ألقت ثقلها في المعركة، لم يعد هناك تراجع عن ذلك: كان لا بد من الإطاحة بمبارك وإلا سيكون انتقامه بلا رحمة. نما دور المتشددين الإسلاميين بينما أصبحت المواجهة أكثر عنفا، ولاسيما بعد انتقال واحدة من المواجهات إلى خارج القاهرة، ففي منطقة الدلتا على وجه الخصوص، مكنتها جذورها العميقة وضعف المعارضة العلمانية نسبيا من اتخاذ دور رئيسي هناك

هنا أيضا يمكن أن نستخلص العبر، لن تهجم جماعة الإخوان المسلمين بقوة أو بسرعة، فهي أكثر وعيا وحكمة من ذلك، بل تفضــــل الاستثمار على المدى البعيد، ويكاد يكون من المؤكد أنها لا تتمتع بتأييد الأغلبية، أو حتى ما يقرب منها في أي مكان. ولكن رسالتها ستلاقي صدى على نطاق واسع، ويمكن أن يساعدها تنظيمها المتـفوق لاســيما بالمقارنة بحال الأحزاب العلمانية. ولكن كلما تعمقت مشاركتها السياسية، تعين عليها أن تتعامل مع التوترات التي فاقمتها الانتفاضة كتلك التي بين الأجيال، وبين الهياكل الهرمية التقليدية والأشكال الحديثة للتعبئة، وبين وجهات النظر الأكثر محافظة وتلك الأكثر إصلاحا، وبين مناطق القاهرة والمناطق الحضرية والريفية

إذا أراد الجيش التغلب على الشكوك حول استعداده لتغيير حقيقي في طبيعة النظام، فسيتعين عليه إما تقاسم السلطة مع قوات مدنية تمثيلية من خلال تشكيل سلطة انتقالية جديدة تكون ممثلة للشعب، أو ضمان اتخاذ القرارات بشفافية بعد مشاورات واسعة، وربما يكون ذلك مع لجنة انتقالية استشارية. ويمكن لبعض التدابير الفورية أن تساعد في طمأنة القوى السياسية المدنية: مثل رفع حالة الطوارئ؛ الإفراج عن السجناء المحتجزين بموجب أحكام الجيش؛ واحترام الحقوق الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع وحقوق النقابات العمالية المستقلة 

من الأفضل للمعارضة أن تكون هناك استمرارية في التنسيق وإجماع حول المطالب الإيجابية السياسية والإستراتيجية الأكثر أهمية، ويمكن تعزيز ذلك من خلال تشكيل هيئة متعددة تشمل الجميع تتمثل مهمتها في إعطاء الأولوية لهذه المطالب والضغط على السلطات العسكرية للاستجابة لها 

وبمجرد النظر إلى ما يحدث في اليمن أو البحرين أو ليبيا، يمكن للمرء أن يقدر مدى قدرة النجاح على الهام الآخرين. ولكن خيبة الأمل معدية أيضا: كانت الإطاحة بمبارك خطوة كبيرة ولكن ما سيتبعها سيكون بنفس الأهمية في تحديد المصير. وبغض النظر عما إذا كانوا راغبين بذلك أم لا، تتركز الأنظار على الشعب المصري من جديد

Subscribe to Crisis Group’s Email Updates

Receive the best source of conflict analysis right in your inbox.